Search Website

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس السادس

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس السادس

بسم الله الرحمن الرحيم

الخليقة بين الحق والباطل

إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعير*

هل في عالم الوجود اتجاهٌ واحد ، ام ثمة اتجاهان ؟ هل الكل يسير في خطٍ واحد ، ام ان هناك تضارب بين الناس؟

حاول البعض جاهداً ان يخلط الجميع ، ويقولبه في قالب واحد ، ليتفق الجميع ، فجمع بين الله والشياطين وشركائهم ، بين الليل والنهار ، بين النور والظلمة ، بين الحق والباطل ، بين الجنة والنار.

وكانت المحاولات – ولا تزال – في هذا السبيل ، وفي الحقيقة ان هذا الفعل ، يعد اكبر مؤامرة في التاريخ لتخريب ثقافة الانسان.

ان الله عزوجل يبين في كثير من ايات كتابه الكريم ، ان هناك ثمةً اختلاف كبير بين الظل والحرور ، بين النور والظلمة ، بين المؤمن والفاسق اذ لا يستوون ، كل ذلك للتفرقة بين هذا الاتجاه وذاك ، لئلا يختلط على البشر الامر فتيهون في متاهات الضلال.

ولابد لهذين الامرين ان ينفصلا ويتمايزا عن بعضهم البعض ، وهكذا فان من المفترض على اي انسان ، ان يقوم بالتمييز بين الحق والباطل في داخله ، فلقلب الواحد منا اذنان ، على احدهما يجلس شيطانٌ ينفث في روع المرء ، وعلى الاخر ملك مبعوث من الرحمن يمنعه من الانقياد وراء وساوس الشيطان ، فقد روي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام، قَالَ: «مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَ لَهُ أُذُنَانِ‏، عَلى‏ إِحْدَاهُمَا مَلَكٌ مُرْشِدٌ، وَ عَلَى الْأُخْرى ‏شَيْطَانٌ‏ مُفْتِنٌ ، هذَا يَأْمُرُهُ، وَ هذَا يَزْجُرُهُ، الشَّيْطَانُ يَأْمُرُهُ بِالْمَعَاصِي، وَ الْمَلَكُ يَزْجُرُهُ عَنْهَا، وَ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ: «عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِن‏ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»[1]. كما ان الله اودع في كل انسان طاقتين ، طاقة العقل ، وقوة الشهوة ، اعطاه القدرة على اتباع الهدى ، او اتخاذ سبيل الهوى ، وله نفسٌ امارةٌ بالسوء ، وفي قبالها اخرى تلومه على فعله القبيح ، وهكذا..

الا ان الناس لا يقدرون – عادة – على التمييز بين هذا وذاك ، لأن الوسوسة الشيطانية لا تظهر في سلوك المرء ، الا بعد ان يزينها الشيطان له ، ويلبس له الحق بالباطل .

ومن هنا كان لزاماً على المؤمن ان يميز بين جانبي القلب ، وان يتبع نفسه اللوامة بعد معرفتها ، وان يدع الامارة بالسوء بعد التعرف عليها ، وهذا هو علاج الانحراف قبل الوقوع فيه ، اذ لابد ان يكون الاصلاح قبل ان يقع الانسان في المطبات ، والا فان الخروج منها يعد امراً صعباً للغاية ، فلابد للمرء ان لا يقوم بامر الا بعد التأمل فيه ملياً ، هل انه من دواعي النفس او العقل ، من دواعي الهدى ام دوافع الهوى ، بل حتى في اتخاذ المواقف ، على المؤمن الا يتخذ موقفاً الا بعد تأنٍ وتروٍ تام لئلا يكون موقفه نابعاً من هواه او وساوس الشيطان والعياذ بالله.

التمييز بين الحق والباطل

ولكن السؤال يكمن في كيفية التمييز بين هذين الخطين في داخلنا؟

قبل ان نجيب على هذا السؤال نقول،  ان الانسان يحتاج الى الوصول الى مرحلة النضج والرشد ، وهذا الامر من وظائفه الشخصية ، و نضجه يدعه يفقه الامور بشكل جيد ، ويميز بين الخير والشر والحق والباطل.

وان طريق التمييز بين الامرين ، طريقٌ طويل ، الا ان على الانسان ان يسلكه ليصل الى التكامل ، وكلما كان المرء اكثر جداً وجهداً في سيره ، كان اجره اكبر و جزاءه اوفر، الم يقل الله سبحانه : (وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى‏)[2] ، و وعي هذه الحقيقة يبني رجالاً كأبي ذر الغفاري رضوان الله عليه ، الذي ما خيّر بين امرين ، كلاهما في سبيل الله سبحانه ، الا اختار اصعبهما على نفسه ، لانه عرف ان جزاء المرء لا يكون الا على قدر سعيه.

إن الشيطان لكم عدو}

كما ان المرض عدوٌ يحاربه الانسان بمراجعة الطبيب ، واخذ الدواء ، واتباع الحمية ، فان الشيطان للانسان عدو، فلابد من محاربته ، والا فلن يقدر الانسان على الخلاص من كيده ومكره.

ان وعي حقيقة كون الشيطان ، عدوٌ للمرء ، امرٌ هام في سبيل محاربته ، وعدم الوقوع في حبائله واتباع خطواته ، مثل اصحاب الوسواس الذين يتبعون وساوسه ، عليهم ان يمتنعوا عن اتباع الوسواس ليكونوا ممن يحارب الشيطان.

{ فاتخذوه عدواً}

كما ان الشيطان عدوٌ للانسان ، فعلى الانسان ان يعلن الحرب ضده ، ويقعد له بكل صراط يريد النفوذ منه ، و اعلان الحرب ضد العدو يقطع الطريق امام الوساوس والحبائل.

{ انما يدعوا حزبه ليكونوا من اصحاب السعير}

في هذا المقطع عدة بصائر :

البصيرة الاولى : ليس للشيطان على الانسان من سلطان ، بل يكتفي بدعوته الى الضلال ، وهذا يعني عدم قدرة الانسان ان يحمل الشيطان مسئولية انحرافه ، لأنه لم يقم الا بالخداع والوسواس ، اما الانسان فهو الذي عصى الله سبحانه وتعالى بمحض ارادته ، وهو من يتحمل المسئولية والعذاب.

البصيرة الثانية : ان للشيطان حزبٌ ، يدعوهم الى السعير.

والحزب يعني التجمع المتحرك نحو هدفٍ معين ، سواء كان الهدف الهياً او شيطانياً. وهكذا فان الحزب يعد العامل الرابع من عوامل الانحراف[3] ، ويختلف العامل هذا عن العامل الاول ، ان العامل الاول بمثابة حالة عامة وسائدة في المجتمع ، ولكن التجمع لا يشترط ان يكون فيه اكثر الناس ، بل حتى المجاميع الصغيرة هي احزابٌ تؤدي الى الانحراف  ، فمن يدخل الحزب هذا يكون ضمن تيار الشيطان والعياذ بالله.

واكثر ما يدخل الناس في حزب الشيطان ، هم اصدقاء السوء للمرء ، الذين يجرونه الى هذه البؤر الفاسدة خطوة تلو اخرى.

وهنا اركز وصيتي على الشباب بان يدققوا في اختيار اصدقائهم ، ويجعلوا لهذا الامر معايير دقيقة ، فكما ان الواحد منهم لا يلبس ولا يأكل ولا يقتني شيئاً الا بعد التدقيق في جودته و منشأه و .. ، عليه ان لا يتسرع في قبول الاصدقاء.

كما على المؤمن ان يفرّ من مجالس السوء ، التي تعد حلق الشيطان ، لئلا يكون من حزبه فيكون من اصحاب السعير ، وقد حذرت ايات القرآن الكريم ، وروايات اهل البيت عليهم السلام من هذا الامر ، فقد قال ربنا سبحانه : (وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في‏ حَديثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقينَ وَ الْكافِرينَ في‏ جَهَنَّمَ جَميعا)[4] ، وقال الامام الرضا عليه السلام ، في قول الله: «وَ قَدْ نَزَّلَ‏ عَلَيْكُمْ‏ فِي‏ الْكِتابِ‏ أَنْ‏ إِذا سَمِعْتُمْ‏ آياتِ‏ اللَّهِ‏» إلى قوله «إِنَّكُمْ‏ إِذاً مِثْلُهُمْ‏» قال: إذا سمعت الرجل يجحد الحق و يكذب به- و يقع في أهله فقم من عنده و لا تقاعده.[5]

وقد حذّر الائمة عليهم السلام اصحابهم من مجالسة اهل الباطل فقد قال الامام الرضا عليه السلام لبعض اصحابه :‏ مَا لِي رَأَيْتُكَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ ؟

فَقَالَ- إِنَّهُ خَالِي.

 فَقَالَ عليه السلام:  إِنَّهُ يَقُولُ فِي اللَّهِ قَوْلًا عَظِيماً يَصِفُ اللَّهَ وَ لَا يُوصَفُ فَإِمَّا جَلَسْتَ مَعَهُ وَ تَرَكْتَنَا وَ إِمَّا جَلَسْتَ مَعَنَا وَ تَرَكْتَهُ.

 فَقُلْتُ ( الراوي) هُوَ يَقُولُ مَا شَاءَ أَيُّ شَيْ‏ءٍ عَلَيَّ مِنْهُ إِذَا لَمْ أَقُلْ مَا يَقُولُ ؟

فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام :  أَ مَا تَخَافُ أَنْ تَنْزِلَ بِهِ نَقِمَةٌ فَتُصِيبَكُمْ جَمِيعاً أَ مَا عَلِمْتَ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُوسَى عليه السلام وَ كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَصْحَابِ فِرْعَوْنَ فَلَمَّا لَحِقَتْ خَيْلُ فِرْعَوْنَ مُوسَى تَخَلَّفَ عَنْهُ لِيَعِظَ أَبَاهُ فَيُلْحِقَهُ بِمُوسَى فَمَضَى أَبُوهُ وَ هُوَ يُرَاغِمُهُ‏[6] حَتَّى بَلَغَا طَرَفاً مِنَ الْبَحْرِ فَغَرِقَا جَمِيعاً فَأَتَى مُوسَى عليه السلام الْخَبَرُ فَقَالَ هُوَ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ وَ لَكِنَّ النَّقِمَةَ إِذَا نَزَلَتْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَمَّنْ قَارَبَ الْمُذْنِبَ دِفَاعٌ.

تنزيل: [نشرة البصائر الرمضانية 6]


[1] الكافي: ج3 ، ص 664

[2] النجم : 39

[3]  ذكرنا العوامل الثلاث في الدرس السابق .

[4] النساء: 140

[5] تفسير العياشي: ج1: ص 281

[6] ( 1) المراغمة: الهجران و التباعد و المغاضبة، اى يبالغ في ذكر ما يبطل مذهبه و يذكر ما يغضبه( آت).