Search Website

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس السابع

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس السابع

بسم الله الرحمن الرحيم

الَّذينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَديدٌ وَ الَّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبير*

المخلوقات التي برئها الله سبحانه وتعالى ، تسير على تلك السنن التي رسمها الباري عزوجل ، ولا تتخطاها قيد انملة ، والانسان – حسبما يبدو- هو المخلوق الوحيد القادر على ان يغيّر ما فيه تغييراً كلياً ، ويبدل ماهويته ، بإذن الله سبحانه وتعالى.

ما السبب في ذلك؟

ان الله سبحانه وتعالى ، خلق الانسان – بالاصل- من نطفة امشاج ، وحسب تعبير الامام امير المؤمنين عليه السلام في خطبته التي قيل عنها انها تختصر جميع الحكم ، بأن الله بعد ان خلق الجنة وجعلها دار كرامته ، وخلق النار وجعلها دار سخطه وعذابه ، اخذ ضغساً من هذه وضغساً من تلك ، ومزجمها وخلق من ذلك الانسان.

وباعتبار ان هذا الموضوع ، من الامور الهامة والدقيقة ، نجد ان ايات القرآن الكريم تشير اليها بلطائف العبارات والصيغ ، حيث قال تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلْناهُ سَميعاً بَصيرا * إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُورا)[1].

فالانسان اذاً مزيج بين النور والنار ، بين العقل والشهوة ، بين الجنة والنار ، وبعد ان خلق الله الانسان على هذه الشاكلة اودع فيه قوةً ثالثة  تهيمن على تلك القوتين ، وهي قوة الارادة ، حيث بها يمتحن الله عباده ، لأنها مظهر حرية الانسان واستقلاليته. ولم يعِ استقلالية الانسان وحريته الا بعض علماء الشيعة فقط ، اما الاخرون قالوا بأن الانسان على ما خلق ، فإن خلقه الله سعيداً فسيبقى الى يوم القيامة كذلك ، والعكس بالعكس ايضاً.

الا ان هذه الفكرة توصل صاحبها الى الاعتقاد – شاء ام ابى – الى نظرية الجبرية ، الذي لعنوا على لسان سبعين نبي ، وانا نجد الروايات الشريفة تؤكد وبكل صراحة على امكانية تغير ( طينة  وسجية ) الانسان ، ويتحول من ديوان الاشقياء ليكون في ديوان السعداء ، وهكذا العكس، ففي ادعية ليالي القدر طلبٌ من الله سبحانه وتعالى بمحو اسم الشقي من ديوانهم واثباته في ديوان السعداء.

ان جوهر الحرية هي الارادة التي وهبها الله للانسان ، وربطها بنفسه ، شريطة ان يسمو المرء الى مرحلة التحرر من القيود والعبودية لله سبحانه ، حيث قال سبحانه : «عبدي‏ أطعني تكن مثلي‏، تقول للشي‏ء: كن، فيكون»[2] ، وبتلك الارادة التي زود الله عبده بها يتمكن من الوصول الى تلك الدرجات العلى.

والتقاعس عن الوصول الى حالة العبودية لله سبحانه وتعالى يؤدي بالانسان الى غلبة حالة النارية عليه فيكون من اصحاب السعير والعياذ بالله ، ومن هنا فان الانسان وحده القادر – بارادته – ان يغير من مصيره ، من اسفل سافلين الى اعلى عليين ، المسافة التي لا تقدر بقدر ابداً ، فالجنة دار رضوان الله وعطاءه ، والنار دار غضب الله وعذابه.

ومعرفة الانسان نفسه بهذا المستوى ، يؤدي به الى الوعي التام اثناء اتخاذ القرارات المصيرية في حياته ، فلا يدع الامور على عواهنها ، ولا يجعل نفسه مطيةً للاخرين ، ولا يكون امعةً في السير مع الناس الى نار جهنم والعياذ بالله.

وهكذا كان الانسان في حياته يسير على حافة الهاوية ( هاوية الضلال ) و لحظة غفلة كفيلةٌ بان يتدخل الشيطان بهمزة من همزاته ليدفع الانسان في ذلك الوادي السحيق ، فالمؤمن يستعيذ بربه دوماً من الشيطان وهمزاته قائلاً: (وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطين‏ * وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُون‏)[3] ، لأن من يغفل عن ربه لحظة واحدة فإن البديل سيكون الشيطان ، وكما قال ربنا سبحانه : (وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرين‏)[4].

الَّذينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَديدٌ}

الذين سيطرت عليهم اهوائهم و شهواتهم ، واتبعوا وساوس ابليس، غلبت عليهم حالتهم النارية ، فصاروا كفاراً ، فكان لهم عذاباً شديدا.ً

وذكر السياق العذاب بصيغة النكرة ، وهكذا صفته ( شديد) ، فلم ترد الكلمتان محلاة بالف التعريف ، وذلك للدلالة على عظمة العذاب وشدته .

وَ الَّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبير}

وفي مقابل الكفار وعدٌ للمؤمنين بالمغفرة والاجر الكبير.

وقوله سبحانه ( لهم مغفرة ) للدلالة على ان بعض المؤمنين كانوا في فترة من حياتهم  منحرفين او كفاراً ، ولهذا فان واعدهم الله سبحانه وتعالى بالمغفرة ، لكيلا ييأس المنحرف من الناس ويبقى امله كبيراً بوجود طريق للعودة الى رحاب الايمان والتقى.

وبالاضافة الى المغفرة فإن لهم اجرٌ كبير، لم يعلن عنه ولم يحدد بالالف واللام ( كالعذاب لكفار) للدلالة على عظمته.

والسؤال هنا : ما هو العمل الصالح الذي تذكره الايات القرآنية مقرونةً بالايمان بالله سبحانه وتعالى ، ليكونا شرطاً لمغفرة الرب وجزاءه؟

قبل الاجابة على هذا السؤال لابد من القول ، ان الله سبحانه وتعالى خلق الانسان في احسن تقويم ثم رده الى اسفل سافلين ، وحينذاك ابتدأ امتحان الانسان بان يخرج نفسه من ذلك الحضيض ويسمو بها الى احسن تقويم ، ولذلك فان خلقة الانسان اقترنت بالمشاكل والمتاعب ليكون في ذلك اختبار الانسان ، وكما يقول الله سبحانه وتعالى في سورة بلد : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ في‏ كَبَد)[5] .

فاذا اراد الانسان ان يخرج من حضيض  ( اسفل سافلين) فعليه ان يخوض معركةً ضاريةً مع نفسه وهواها والشيطان ووساوسه ، بأن يقتح العقبة ، حيث يقول سبحانه وتعالى : (فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَة * وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَة * فَكُّ رَقَبَة * أَوْ إِطْعامٌ في‏ يَوْمٍ ذي مَسْغَبَة * يَتيماً ذا مَقْرَبَة* أَوْ مِسْكيناً ذا مَتْرَبَة * ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَة)[6].

ان هذه الايات تبين العقبة التي ينبغي على المرء ان يقتحمها ليكون من اصحاب الميمنة ، وهي من الاعمال الصالحة التي ينبغي على المؤمن ان يفعلها.

تنزيل: [نشرة البصائر الرمضانية 007]



[1]  الانسان : 2-3

[2] دلائل الصدق لنهج الحق : ج5، ص 181

[3]  المؤمنون : 97-98

[4]  الزخرف: 36

[5] البلد : 4

[6] البلد : 11 – 17