
تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس الثامن
05 Jun 2023بسم الله الرحمن الرحيم
التبرير.. من عوامل الانحراف
أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)
هل الانسان مسؤول عن هداية نفسه ، ام ان الهداية امرٌ خارج عن ارادته وسيطرته؟
صحيحٌ ان الهداية عطاءٌ الهي ، يعطيه من يشاء ويمنعه عمن يشاء، الا ان الانسان يبقى مسؤولاً عنها ، وذلك لأن الله تعالى زود الانسان بالات الهدى ، وهي السمع والبصر والفؤاد والعقل ، وما دامت هذه الاتٌ فاعله في خدمة الانسان ، فعليه ان يستثمرها في هذا المجال، والا فانه سيكون مقصّراً في تأدية حق النعم.
وحين نقول ان الانسان مسؤول ، فان ذلك يعني ان عاقبة افعاله ، لا تكون الا اليه ( او عليه) ، فإن قصّر في تحصيل مقدمات الهدى ، فإنه المتضرر الوحيد من ضلالته.
ثقافة التبرير
الا ان المشكلة في الكثير من الناس هي في محاولتهم القاء اللوم في انحرافهم ، على عوائلهم وبيئاتهم ومجتمعاتهم ، هرباً من تحمل المسؤولية ، في حين ان الله سبحانه وتعالى قد حمّل كل واحد من بني البشر هذه المسؤولية ، ومن هنا فإن المؤمن يكرر في اليوم الواحد اية ( اهدنا الصراط المستقيم ) اكثر من عشرة مرات ، وهي اعظم ايةٍ في كتاب الله بعد اية البسملة.
فإن لم يكن الانسان مسئولاً عن الهدى ، فلماذا يكرر الطلب من الله سبحانه وتعالى ؟
على الفرد ان يوفر شروط الهداية في نفسه اولاً، ومن بعد ذلك يطلب من الله سبحانه وتعالى ان يهديه ، لأنها من عند الله سبحانه وتعالى وحده.
والاية هذه ، تبين عاملاً خامساً من عوامل الانحراف لدى البشر ، فبعد ان قال سبحانه في نهاية الاية الثالثة : ( .. فَأَنَّى تُؤْفَكُون)[1] ، شرع في الايات التالية بيان العوامل المؤدية الى سلوك الانسان سبيل الضلال ، وقد ذكرنا اربعة منها حسب السياق القرآني .
والاية هذه تبين أن حالة التبرير هي من العوامل الخطيرة لإنحراف الانسان ، قال الله سبحانه :
{ أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً }
في عالم اليوم تكثر محاولات الخداع والتزوير في الجوانب الاقتصادية والصناعية ، فنجد ان دولاً تصنّع البضاعة المقلدة وتضع عليها لاصقاً للشركة الاصيلة ، للتغرير بالناس ، ليقوموا بشراء هذه البضائع بثمن زهيد.
وكما في عالم التجارة والاقتصاد ، كذلك في عالم الثقافة والعقيدة والفكر ، بل ان حالات الخداع والتحريف في عالم الثقافة اكبر حجماً واكثر عمقاً واشد خطورة على المجتمعات.
فالغرب والشرق يحاولون ترويج ثقافاتهم الماجنة للمجتمعات الاسلامية وتحميلهم تقاليدهم المزيفة ، وهذه من المظاهر الخطيرة في واقع امتنا ، ومما يؤسف له ان الخدع هذه قد سرت الى كثير من شباب امتنا ، فمثلاً نجد ان المدن الكبرى في دولنا اتجهت نحو العزوبية ، حيث فضّل اكثر من ثلاثين بالمئة من هؤلاء العزوبية على الزواج ، واكثرهم من الفتيات.
ان خداع الاخرين امرٌ خطير ، الا ان هذا ليس نهاية المطاف لدى الانسان ،لأنه في كثير من الاحيان لا يكتفي ان يخدع الاخرين ، بل يخدع نفسه التي بين جنبيه ايضاً ، قال الله سبحانه وتعالى : (يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُون).[2]
ولو اقمنا دراسة على اهل المعاصي واستقرئنا حالاتهم النفسية ، نجد انهم يبررون قيامهم بالمعصية قبل الاتيان بها ، فيزينونها لانفسهم ، ويقنعون ضميرهم بأن هذه المعصية ليست كبيرة – مثلاً – ، او ان باب التوبة مفتوح ، او ان فعلها مسموحٌ لشخصه حصراً اذ انه فقيرٌ او معدم او … وكما فعل بن سعد حين عرض عليه ملك الري شريطة قتل الامام الحسين عليه السلام ، فهو حاول تبرير فعلته هذه بقوله :
يقولون ان الله خالق جنة ***ونار وتعذيب وغل يدين
فان صدقوا فاني *** اتوب الى الله من سنتين
وهكذا فان الكفار واصحاب المعاصي يزينون لانفسهم ظاهر الاعمال القبيحة ويزخرفونها ، الا ان جوهر الفعل يبقى قبيحاً وسيئاً ، ان هؤلاء يرون القبيح حسناً ، لأنهم فقدوا بصائرهم في معرفة الحقائق.
عدم الاغترار بالمظاهر
لكل شيء ظاهرٌ وباطن ، ومن يعيش حالة السطحية فانه يغتر بالمظاهر الاخاذة ، اما الذين يعيشون حياتهم بتأمل وتفكر ، يفوتون الفرصة على من يحاول خداعهم ، كما انهم لا يخدعون بنفسهم الامارة بالسوء.
وهكذا فان المؤمن لا يعيش حالة السطحية والقبول لكل فكرة وثقافة ، فاذا ما اطلع على فضائية وبرامجها ، وقرأ الكتب والمجلات ، فانه لا يسارع في قبول ما فيها ، لأنه صاحب عقلٍ ودراية ، وقد اعطاه الله سبحانه وتعالى القدرة على التمييز بين الحق والباطل ، ليختار الجيد ويدع الرديء، قال سبحانه وتعالى : {وَ الَّذينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِباد * الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْباب}[3].
وقد قال الامام محمد الباقر عليه السلام: ( مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَقَدْ عَبَدَ اللَّهَ وَ إِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ الشَّيْطَانِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ)[4].
ومن هنا فإن مسؤولية الانسان ، مسؤولية كبيرة في تعامله مع الافكار والثقافات ، ولا يفتح قلبه لكل فكرةٍ دون ان يزنها ويتأملها ملياً ، فقد قال النبي عيسى : كُونُوا نُقَّادَ الْكَلَامِ فَكَمْ مِنْ ضَلَالَةٍ زُخْرِفَتْ بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَمَا زُخْرِفَ الدِّرْهَمُ مِنْ نُحَاسٍ بِالْفِضَّةِ الْمُمَوَّهَةِ النَّظَرُ إِلَى ذَلِكَ سَوَاءٌ وَ الْبُصَرَاءُ بِهِ خُبَرَاءُ[5].
بل على الانسان ان يحذر من مجالسة من لا يثق بدينه وتقواه ، لأن ذلك يؤدي به قبول افكاره شيئاً فشيئاً ، وقد روى الامام الصادق عليه السلام قول النبي عيسى عليه السلام بشأن مجالسة العلماء ، حين سأله الحواريون : من نجالس يا روح الله ؟
فقال عليه السلام : مَنْ يُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ رُؤْيَتُهُ وَ يَزِيدُ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ وَ يُرَغِّبُكُمْ فِي الْآخِرَةِ عَمَلُه[6].
{ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ }
ان لم ينتفع الانسان من نور العقل ، ولم يستفد من فطرته التي فطره الله عليها ، فلم يتبع اوامر العقل ونواهيه ، ولم يتبع فطرته وبصائرها ، فان نور عقله يخبو بتراكم ركام الشهوات والعصبيات والافكار المنحرفة عليه ، فلا يكون مستحقاً للهدى ، اما من استنار بنور عقله وهيأ في قلبه مقدمات الهدى ، فإن عقله يزداد ضياءاً وسناءاً بإذن الله سبحانه وتعالى ويهديه الله عزوجل.
فالهداية والضلالة بيد الله سبحانه وتعالى ، وليس احدٌ مسؤولٌ عن هداية المرء او ضلالته ، الا شخصه ، حتى الانبياء لا يكلفون اكراه الناس على الهداية ، او اهلاك انفسهم في سبيل هداية الناس.
ومن هنا فان الله سبحانه يخاطب نبيه ، بأن لا يهلك نفسه لأجل هؤلاء ، لأنهم اتبعوا سبيل الضلال حتى قست قلوبهم.
{ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ بِما يَصْنَعُونَ }
وردت لفظة الصنع ، بدل لفظ الفعل ، او الكسب ، لماذا؟
لأن اهل الكفر والضلال دخلوا المجتمعات ليوجدوا بناءاً مائلاً ومنحرفاً عن الصراط المستقيم ، فسنّوا السنن السيئة بين الخليقة ، فالذي هوّد اليهود ، ونصّر النصارى ، وخدع المسلمين حتى حرّف مسيرة الامة عن ولاية اهل البيت عليهم السلام ، ان هؤلاء جميعاً صنعوا بنيان الضلال ، والله سبحانه وتعالى عليمٌ بما يصنعون.
تنزيل: [نشرة البصائر الرمضانية 008]