
تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس الأول
05 Jun 2023ابتدأ المرجع المدرسي سلسلة تدبراته القرآنية الرمضانية هذا العام ليتحدث عن سورة فاطر و بدأ سماحته الحديث بحمد الله وشكره على نعمه و مننه، و توفيقه باقامة هذه المجالس المباركة، وقد حضر جمعٌ غفير من العلماء وفضلاء الحوزة الدينية وخطباء المنبر الحسيني ، بالاضافة الى اساتذة وطلاب الجامعات ، للاستنارة بنور القران الكريم والنهل من مائدته المباركة.
وفيما يلي تلخيص ما جاء في محاضرة سماحة السيد المرجع الديني اية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي ، راجين العلي القدير ان يوفق المؤمنين جميعا للاستنارة بنور القرآن الكريم ونشر نوره الى الناس جميعاً ، فخير الناس من تعلم القرآن ونشر علمه ذلك، كما قال رسول الله صلى الله عليه واله : خِيَارُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَ عَلَّمَهُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُوليأَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ يَزيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدير*
قبل البدء ، نشكر الله سبحانه ناحمده على ان امدّ في اعمارنا لندرك شهر رمضان المبارك مرة اخرى ، وان نكون في خدمة الاخوة الكرام على مائدة القرآن الكريم ، و لابد ان ههنا ان اسجل ملاحظة للاخوة الافاضل:
مما يمكن التأكيد عليه ان الخدمات التي قام بها الاخوة في سبيل بناء انفسهم و الخدمات التي قدموها في سبيل القرآن الكريم خلال العام المنصرم كانت ذات تأثير ايجابي عليهم في حياتهم الشخصية ، من دفع البلايا وجلب المنافع ، وازدياد البركة في اعمارهم ، نسأل الله سبحانه وتعالى ان تكون السنة هذه ايضاً سنة خدمة للقرآن الكريم ايضاً.
ولكن على الواحد منا ان يصارح نفسه بالتساؤل : ان الله قد وهبنا عاماً كاملاً من العمر في هذه الدنيا، فكيف قضينا السنة الماضية؟
هل بقي ايماننا على ما كان عليه ، ام انه – لا سمح الله –كان في تراجع ، ام ان ايماننا بالله كان في حالة نمو وازدياد ، وما الذي فعلناه في سبيل تنمية الايمان بالله ؟ وبعبارة اخرى : هل انا نكتفي بهذه المستوى الذي نحن فيه ، ام ان نسعى جاهدين لنرتقي درجات الايمان والقرب من الله ، ولو درجة واحدة؟
في الواقع ان الابالسة يسعون دائبين ليهمزوا المرء ويدفعوه عن جادة التكامل ، بل يدفعوه ليتراجع في كماله ويتسافل عن طريق النمو والتكامل ، فكيف لنا ان نتجاوز همزات الشياطين ، بل ونرتقي درجات الكمال والقرب من الله سبحانه وتعالى؟
يمكن ذلك من خلال نظرة الانسان الى الامور ، ففي امور الدنيا على المرء ان ينظر الى من هو دونه في النعم المادية ، فمن يمتلك سيارةً من طراز قديم ، ويطمع ان يحصل على افضل منها فعليه ان ينظر الى من هو دونه في المستوى المادي ، ممن لا يملك السيارة . اما بالنسبة الى ما يرتبط بالاخرة فعلى المرء ان ينظر الى من هو اعلى منه ، ويجعل الامام زين العابدين عليه السلام قدوةً له في هذا السبيل ، فقد قيل له عليه السلام وَ كَانَ الْغَايَةُ فِي الْعِبَادَةِ أَيْنَ عِبَادَتُكَ مِنْ عِبَادَةِ جَدِّكَ؟ قَالَ: عِبَادَتِي عِنْدَ عِبَادَةِ جَدِّي كَعِبَادَةِ جَدِّي عِنْدَ عِبَادَةِ رَسُولِ اللَّه.[1] فكان ، عليه السلام ، يستصغر عبادته امام عبادة جده امير المؤمنين عليه السلام.
وفي هذه السنة ، نريد – بمشيئة الله سبحانه – ان نتدبر في سورة من سور القرآن الكريم الفضيلة وهي سورة ( فاطر) ولهذه السورة المباركة اسماً اخر ، اذ انها تسمى بسورة ( الملائكة) ، لورود اسم الملائكة – كما اسم فاطر – في اولى ايات هذه السورة.
الاطار العام للسورة:
هل لهذه السورة اطاراً عام يجمع الايات الواردة فيه ؟ وما هو مجال الانتفاع بمعرفة الاطار العام للسورة؟
اننا نعتقد ان معرفة الهدف الاساس من السورة ( الاطار العام) يساهم في ادراك اعمق لاياتها ، فسورة ال عمران – مثلاً- ان عرفناها تتمحور حول القيادات الالهية ، فإن هذه المعرفة تسهل فهم الايات التي تتحدث عن تلك الشخصيات التاريخية ، فينظر اليها المتدبر من زاوية كون هذه الشخصيات هي القيادات الربانية للامم.
فما هو الهدف الاساس لسورة ( فاطر ) ؟
ان البعض –حين يريد فهم الاطار العام لسور القرآن – فانه يقول ان هذه السورة ، تتحدث عن التوحيد والرسالة والمعاد. صحيحٌ ان جميع السور تهدف الى هداية الناس الى هذه الامور ، الا ان لكل سورة طريقاً خاصاً للوصول الى ذلك الهدف السامي.
وفي هذا المجال نحاول ان نستفيد من اولى كلمات هذه السورة الذي سميت السورة بهذه الكلمة ، نستفيد في مجال فهم الاطار العامل لهذه السورة ، فماذا تعني كلمة فاطر ؟
اسماء الله سبحانه
قبل الاجابة على هذا السؤال علينا ان نقول : ان لله سبحانه اسماءاً حسنى ، وقد جعل تلك الاسماء سبيلاً اليه ودليلاً عليه لمن اراد الاستدلال ، وامر الناس ان يدعوه بتلك الاسماء اذ قال سبحانه : (وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)[2]، فاسماءه سبحانه طريق الاتصال به عزوجل.
واسماء الله على قسمين :
الاول: ما يشترك بين الخالق والمخلوق جزئياً ، كإسم ( الخالق)الذي هو من اسماءه عزوجل ، ولكن الخالقية تنطبق على المخلوق ايضاً.
فالخالق هو من يبدل المادة الى هيئة خاصة ، وهذا مما يشترك فيه الخالق والمخلوق ، فالنجار ايضاً يبدل مادة الخشب الى منبر يجلس عليه الخطيب ، فهو خالقٌ اذاً . نعم ان هناك فرقاً شاسعاً بين خالقية الله وخالقية الخلق ، ففي الاول ذاتية ،في حين ان الخالقية عند البشر هي بعطاء الله سبحانه.
الثاني: هي تلك الاسماء التي اختص بها الرب لنفسه ، فلا اشتراك بينه وبين عباده فيها ، مثل اسم (المتكبر) ، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه واله : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَ الْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّم.[3]
وكذلك فان اسم الـ ( فاطر) و اسم ( البديع) اسمان يختص الله بهما ، ولا يشترك العباد فيه.
والكلمة مشتقةٌ من الـ ( فطر) بمعنى الشق، فالفاطر هو من يوجد الشق ، كمن يوجد شقاً في الجدار او الارض ، فالله سبحانه وتعالى هو فاطر الخلائق ، فاذا تصورنا – مجرد تصور- ان العدم كالجدار ، فان الله هو من اوجد فيه شق الوجود وفطر الخلائق ، فالله سبحانه هو وحده الموجد من العدم ، فلا احد يقدر على الفطر سوى الله سبحانه.
فالله هو خالق الاشياء لا من شيء ، كما في الحديث الشريف ٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: قَالَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ الْعُظْمَى وَ الْإِلَهِيَّةِ الْكُبْرَى لَا يُكَوِّنُ الشَّيْءَ لَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا اللَّه..[4]. ولم يقل عليه السلام ( من لا شيء ) بل قال ( لا من شيء ) للدلالة على ان اوجد الوجود وابدع الخلائق دون وجود مادة اصلية ، فهو سبحانه بديع السماوات والارض ، اذ انه خلقها ولا مثال سابق ليحتذي به ، كما ورد في الاثر : ( .. صَوَّرَ مَا أَبْدَعَ عَلَى غَيْرِ مِثَال..)[5]، فاسم البديع يشابه اسم الفاطر في المعنى ، مع لحاظ عدم وجود مثال سابق يحتذي به الله سبحانه في الخلق.
معرفة الاسم نور القلب
ما هي الفائدة من معرفة اسماء الله سبحانه؟
لو وعينا اي اسم من اسماء الله عزوجل ، بشكل كامل وعميق ، فان ذلك يساهم في تكامل معرفة الانسان ، فكما يحتاج جسم الانسان الى مواد مختلفة ، كذلك الحال بالنسبة الى روحه ، التي تحتاج الى انواع مختلفة ومتنوعة من المعرفة للتكامل وتسمو ، ولكل اسم من اسماء الله سبحانه نورٌ خاص ينير قلب الانسان به.
فحينما يكون الانسان جاهلاً يحتاج الى التعلم فانه يأنس باسم ( العليم ) لله سبحانه وينير به قلبه ، وكذلك من هو بحاجة الى المال والرزق، فانه يقترب الى وعي اسم ( الجواد ) و( الغني) ويزداد قرباً الى الله.
كما ان كل اسم من اسماء الله يغذي روح الانسان بنوع خاص من التغذية ويكمله في جانب معين ، ومن هنا دعينا الى حفظ جميع اسماء الله ، وقراءة دعاء جوشن الكبير لتتكامل الجوانب المختلفة في ارواحنا.
وعي اسم الـ (فاطر)
واسم ( فاطر) فيه من المعارف الكثير ، واهمها ان هذا الاسم يوصل الانسان الى المعرفة التامة بالله عزوجل ، كيف ؟
ان معرفة الانسان بربه على ثلاث مراحل :
الاولى : ان يعرف ان له رباً وخالقاً ، ولكنه يظن ان الله قد خلق الخلق وتركهم لشئنهم ، وجف قلم تقديره ، وحسب ما قلت اليهود بأن يده مغلولة –سبحانه -.
وهذه المعرفة وان كانت خاطئة بضرورة الدين والمذهب ، الا ان الكثير منا قد يكون فيه بعضاً من هذه الافكار ، حيث يظن الواحد منا – في قرارة نفسه- ان الله قد لا يقدر على قضاء حاجته ، فهو وان دعا الله في حالته هذه واستجاب له ربه ، الا انه سرعان ما ينسى استجابة الرب لدعاءه ، او قد يشرك بالله في شأن قضاء حاجته وحل مشكلته ، بأن يجعل الفضل في الاسباب دون المسبب الحقيقي.
وعلى المؤمن ان يتجاوز هذه الافكار الضالة ويخلي قلبه منها ، فحينما يدعو ربه يدعوه بقلب خالص ، ويقين بالاستجابة.
الثانية: ان يعرف الانسان بان له رباً قادراً على كل شيء ، الا ان مقدرته لا تتجاوز سلسلة الاسباب والمسببات ، فعلى سبيل المثال ، يتصور ان الله قادر على انقاذ الانسان من النار المحرقة المحيطة به من كل جانب ، لكن الانقاذ لا يتم الا عبر انزال المطر او مجيء رجال الاطفاء او.. ولا يمكنه ان يعتقد بان الله قادر على انقاذه عبر اختراق سننه التي خلقها واودعها هو سبحانه في خلقه ، بأن يأمر النار فتكون برداً وسلاماً.
وهذه المعرفة ايضاً معرفة خاطئة ، كما هو واضح ، اذ ان الله سبحانه هو الخالق للسنن والقوانين ، وهو الذي اجراها من قبل ويجريها من بعد ، فهو المهيمن عليها كل حين ، وهو القادر على ان يتجاوزها متى ما شاء.
الثالثة: ان يعرف ان له رباً خالقاً مقتدراً ، ليس فقط انه غير مغلول اليد ، او انه قادر على تغيير السنن ، بل هو الذي خلق الخلق وابدعه ، وجعل السنن في خلقه ، فهو الفاطر.
فكلمة الفاطر توصلنا الى هذه المعرفة السامية ، بان يعرف الانسان ان ربه تعالى هو من اوجد هذا الوجود بكلمة ( كن ) .. فلمَ لا يمتلك الواحد منا ايماناً كافياً بهذا الخالق القادر ، وبما يقوله ؟
ومن هنا فان الاطار العام في هذه السورة ، هو هداية الانسان الى اسم من اعظم واعلى واسنى اسماء الله سبحانه ، بأنه عزوجل فاطر للخلق ، وان خلقته هذه مستمرة لا انقطاع لها ، فقد قال عزوجل: (وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُون)[6].
شكر الله الفاطر
[الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ]
الالف واللام في كلمة ( الحمد) دالة على الجنس ، وهي تعني الاستغراق ، ويعني ذلك ان الله سبحانه يحمد على كل شيء وفي كل حين ، فنحن نحمد ذلك الرب الذي اعطانا اعظم نعمة واول نعمة ، وهي نعمة الوجود ، تلك النعمة التي قد يغفل عنها الانسان في كثير من الاحيان ، فلا يلتفت اليها الا اذا احس بقرب زواله ومصيرها الى العدم.
وحين يحمد الواحد منا ربه ، فإنه يعلن في ثنايا حمده انه يقر بأن محموده سبحانه مالكٌ لكل صفات الجلال والكمال .