
تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس العاشر
05 Jun 2023بسم الله الرحمن الرحيم
{ مَنْ كانَ يُريدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَميعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَ الَّذينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَديدٌ وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)}
تتضمن الاية بحوثٌ ثلاث ترتبط بموضوع العزة ، اولاهما عن مصدر العزة والامر الثاني يتعلق بالامور التي تؤدي الى ان يكون المرء عزيزاً ، اما الامر الثالث فعن مصير الباحثين عن العزة في غير محلها.
مصدر العزة
{ مَنْ كانَ يُريدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَميعاً}
يبحث الانسان عن القوة والمنعة والهمينة ، وبالتالي فإنه يبحث عن العزة ، ولن يجد العزة من يبحث عنها في غير محلها ، فأين محلها؟
ان الاية تصرح بأن العزة جميعاً لله سبحانه وتعالى ، ولا عزة عند غيره ، الا اذا كان الله هو المصدر لها ، ففي الدعاء : (يَا مَنْ خَصَّ نَفْسَهُ بِالسُّمُوِّ وَ الرِّفْعَةِ وَ أَوْلِيَاؤُهُ بِعِزِّهِ يَعْتَزُّون)[1] ، فالمؤمن عزيزٌ بعزة الله سبحانه وتعالى ، ولا يذل نفسه امام غير الله سبحانه في احلك الظروف.
ان اولياء الله ، حين عرفوا مقام ربهم ، واعتزوا بعبوديتهم له ، صغر ما دون الخالق في اعينهم ، فلم يكونوا ليذلوا انفسهم امام صاحب ثروة او سلطان او..
وللعزة مصاديق كثيرة ، منها ان يعتز المؤمن ويستقل في شئونه الاجتماعية ، ومنها الاعتزاز على الصعيد الاقتصادي ، او السياسي، بل حتى على الصعيد العسكري ، فالامة المؤمنة تسعى جاهدةً لئلا تمد يد المسألة الى الكفار والاعداء، بل تسعى دوماً في بناء مجتمعاتها بأفضل شكل ، وفي نهاية الاستقلالية.
وفي احاديث اهل البيت عليهم السلام تأكيد على هذه الحقيقة ، تلك الاحاديث التي تركها المسلمون ورغبوا عنها فضلوا ، يقول امير المؤمنين عليه السلام :احْتَجْ إِلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ وَ اسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ وَ أَفْضِلْ عَلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَمِيرَه.[2]
فالناس ثلاثة ، اما اسيرٌ عندك ، او نظيرٌ لك ، او اميرٌ عليك ، وهذا التصنيف عائد الى اختيار الانسان ، فبإحسانه لغيره يصير اميراً عليه ، و بالاستغناء يكون نظيراً ، وبالاحتياج يتحول الى اسير عند المحسن.
وكما في الافراد ، فان هذه التصانيف تصدق على الامم ايضاً ، فالامة التي تمد يدها لتستجدي الطعام والشراب وضروريات المعيشة من الدول الاخرى ، تعيش في اسر تلك الدول المتفضلة ، اما اذا استغنت فتكون نظيرةً لها ، وفي افضل الاحوال ان كانت الامة مستقلة وعزيزةً ومحسنة الى الاخرين ، فتكون حينها اميرةً على تلك الامم والمجتمعات.
فالعزة جميعاً لله ، فلا يحق بمعتزٍ بالله سبحانه ان يعيش خاضعاً ذليلاً امام غير الله العزيز ، ففي الحديث ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصادق عليه السلام: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ فَوَّضَ إِلَى الْمُؤْمِنِ أُمُورَهُ كُلَّهَا وَ لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ أَنْ يُذِلَ نَفْسَهُ أَ لَمْ تَسْمَعْ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ- وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَالْمُؤْمِنُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَزِيزاً وَ لَا يَكُونَ ذَلِيلًا يُعِزُّهُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ وَ الْإِسْلَامِ.[3]
اكتساب العزة
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}
والسؤال هنا : كيف يمكن للانسان ان يحصل على العزة ؟
من اراد العزة ، عليه ان يقوي علاقته بالله سبحانه وتعالى ( مصدر العزة) فالكلم الطيب هو حبل الله بينه وبين عباده ، المتمثل بالثقلين ، ان الله سبحانه يقول : (وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَ فيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيم* يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُون* وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَميعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون)[4] ، فلماذا يكفر الانسان وعنده كتاب الله ورسوله ؟ وهما معاً حبل الله وعروته الوثقى ، كما انهما يشكلان الاساس في العقيدة السليمة.
فالحصول على العزة – اذاً – يكون عبر تصحيح معتقده ، فمن كان ذا عقيدة مستقيمة فانه عزيزٌ لا تذله اعاصير الحياة ، وكذلك العكس ، فمن لا يمتلك ايماناً بالله عزوجل فانه لن يحصل الا على المذلة والخنوع ففي الحديث عن امير المؤمنين عليه السلام : (من اعتزّ بغير اللّه سبحانه ذل)[5].
بالاضافة الى ذلك فان الاعمال الصالحة ترفع شأن الانسان ومقامه عند الله سبحانه ، ولا نعني بالعمل الصالح الصلاة والصيام لأنهما من الايمان ، بل نعني بالعمل الصالح كل فعلٍ حسن يهدف منه المرء رضوان ربه ، فتعبيد الطرق ، وبناء المستشفيات والمدارس، واطعام المساكين ، وخدمة البشرية ، كلها اعمالٌ صالحة.
فحصول العزة يكون في امرين:
اولا:ً الكلم الطيب : بمعنى العقيدة المستقيمة ، وهي من الامور القلبية.
ثانيا:ً العمل الصالح : وهذا يرتبط بجوارح الانسان .[6]
{ وَ الَّذينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَديدٌ وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ}
ان الله سبحانه قد سنّ لهذا الوجود سنناً لا تتغير ، فمن سار على وفقها فقد نجى وفلح ، اما من سار في خلاف مسيرتها ، فقد هلك.
فالله سبحانه قد جعل العزة في الايمان به والعمل الصالح ، اما من يبحث عن العزة عند غير الله سبحانه وتعالى ، فانه لن يجدها ومهما سعى وخطط لهذا الامر ، سوف لن يفلح ، لأنه يسير بخلاف الطريق الصحيح ، وحسب التعبير الدارج ( يسبح خلاف التيار).
وهؤلاء يكون لهم عذاب شديد ، وكما في الايات السابقة فان العذاب ذكر نكرةً لمزيد من التهويل والتعظيم ، كما ان مكرهم سيكون الهلاك.
[1] اقبال الاعمال: ج1 ، ص 343
[2] الارشاد في معرفة الحجج على العباد: ج1 ، ص 303
[3] الكافي: ج5 ، ص 63
[4] ال عمران : 101-103
[5] غرر الحكم ودرر الكلم : ص 601
[6] عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ- (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ): وَلَايَتُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ وَ أَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَوَلَّنَا لَمْ يَرْفَعِ اللَّهُ لَهُ عَمَلًا.