
تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس الحادي عشر
05 Jun 2023هدى الايات واستئصال جذور الشرك
وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ في كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسيرٌ (11)
من خلال تفحص ايات الذكر الحكيم ، نصل الى حقيقة هامة ، وهي ان اهم عمل تقوم به ايات الكتاب للمؤمن بها والمتدبر فيها ، هو قلع جذور الشرك والكفر من القلب ، فالانسان اذا ما صب اهتمامه في الدنيا فانها تحجبه عن ربه سبحانه وتعالى ، بل يسوقه انشغاله بزينة الحياة الى الاعتقاد بالالهة المزيفة والشركاء المزعومين ، وحينها فان الانسان يحتاج الى وقفات تأمل ذاتية ، في التساؤل عن الخالق الحقيقي والرازق والمعطي و..
فمن الذي خلقنا و يرزقنا آناً بعد ان؟ اليس هو الاجدر بالعبادة والخضوع.
وبعد أن بينت الايات الاولى من هذه السورة المباركة اسباب وعوامل الانحراف عن الجادة ، تبين الاية في قبال ذلك طريق الهداية.
طريق الهدى
ان وعي حقيقة كون اله وخالق لهذا الكون والاعتقاد بذلك من سبل الهدى ، فحين يقع الانسان في مشكلة لا يقدر على حلها الوسائط والاقارب ، اليس الله هو الذي ينقذه من تلك المشكلة ؟
وحينما تنكسر به السفينة في بحرٍ لجي، او تهوي به الطائرة حين عطلها الى وادٍ سحيق ، الا يتجه قلبه الى الله سبحانه دون الشركاء والانداد؟
نعم ، الكل في لحظة العسرة يذكرون الله ، حتى الكفار يجأرون اليه حينها ، فيخاطبونه بقلوب نقيةٍ من الشك والشرك ، الا ان المشكلة تكمن في نسيان الانسان تلك المواقف بعد مرور عاصفة الازمة ، والعودة الى ما كان عليه من شرك بالله سبحانه وتعالى.
والتذكير الدائم بهذه الحقيقة ، ومحاولة عدم نسيانها ، سبيل قلع جذور الشرك من قلب الانسان .
والاية الكريمة تبدأ الحديث مع الانسان عن بيان اصل الخلقة ، فبدأ الله خلقه من تراب ، ومن ثم نطفة ، ومن بعد ذلك اعطاه العمر ..
فما هو الفرق بين التراب وبين النار ، و ايهما الافضل ؟
ثم ما هي المرحلة الفاصلة بين التراب والنطفة؟
وما هو عمر الانسان ؟ وماذا يكون لبعضهم العمر المديد دون الاخر .
وما هو السبب في ان البعض يرزقون بالاولاد ذكوراً واناثاً ، في حين ان البعض الاخر يبقون بلا ذرية؟
ان جمع هذه التساؤلات معاً و الاخذ بعين الاعتبار ان كل شيء ( التراب.. النطفة.. العمر.. الذرية ) من عند الله سبحانه وتعالى ، يؤدي الى اقتلاع جذور الشرك من دواخلنا.
ولابد للمؤمن ان يسعى دائماً في الارتقاء بمستوى معرفته بالله وايمانه به ، ويسعى ايضاً في محاربة الشبهات والشكوك الطارئة على قلبه ، لأن الايمان ليس مستوىً واحداً ، بل هو سلمٌ كثيرةٌ مراقيه ، حتى تكاد لا تنتهي.
مراحل الخلقة
{ وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ}
كان الخطأ الاكبر لابليس قياس عنصر النار ( الذي خلق منه ) بالطين ( المخلوق منه آدم عليه السلام) و ظنه ان النار خيرٌ من الطين.
فالقياس كان خاطئاً ، اضافة الى ان نتيجة قياسه كانت مغلوطة ، لأن الطين خيرٌ من النار ، فلو درس الانسان التراب سيجد ان التراب مصدر لكثير من العناصر الحياتية للانسان ، كما ان من فوائد التراب كونه قابلاً لخلقة الانسان منه ، وتوضيحاً لهذه الفكرة نقول: ان التراب على انواع حسب اختلاف المناطق ، ولكل نوعٍ منه قابلية خاصة ، فنوعٌ منه نافع لنمو الشجرة الفلانية ، والاخر لشجرة اخرى وهكذا.. وكما في نمو الاشجار ، كانت التربة ارضية مناسبة لنمو الانسان.
{ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ}
لكن كيف تحول التراب الى نطفة ؟
في مقام التحول جانبين :
الاول: هو التحولات الفيزيائية والكيميائية الطارئة على ذرة التراب لتتحول الى نطفة الانسان، الا ان هذه التحولات وان كانت عظيمة في حد ذاتها ، الا انها لا تكفي في التحول ، بل هناك حاجة الى الجانب الثاني.
الثاني: النفخ فيه بروح الحياة ، وهذه الحياة المودعة في التربة لتكون نطفة هي الاصل دون الاول ، ولم تستوعب البشرية بعد حقيقة الحياة.
ولكن التساؤل المحير للالباب هو : كيف لنطفة واحدة ان تكون ذكراً تارةً وانثى اخرى ، في حال ان المصدر واحد ، والمفروض ان يكون المنتج واحداً ايضاً ، ان التفكر في هذه الحقيقة كفيلٌ بتقريب الانسان الى قدرة ربه عزوجل.
بالاضافة الى ذلك ، فإن عدد الذكور والاناث متقاربٌ لضمان التكامل واستمرار الحاجة ، فانك لا تجد بين عائلتك الكبيرة وعشيرتك اختلافاً كبيراً بين عدد الذكور والاناث ، وهذا الامر يصدق على سائر العوائل والمجتمعات.
{ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً}
وبعد مرحلتي التراب والنطفة ، تأتي مرحلة التكامل البدني ، حيث يبلغ الانسان فيه مرحلة النكاح ، ليتزاوج ويستمر نسله.
{ وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ}
ان الله سبحانه وتعالى هيأ للانسان وهو في بطن امه اسباب الحياة ، كما انه دبّر له رزقه بعد ولادته و..
بل وان علم الله وتدبيره يشمل الجنين الذي سيكون سقطاً ، كما يشمل الجنين الذي سيولد في هذه الدنيا.
{ وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ في كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسيرٌ}
ومن تدبير الله سبحانه لذلك الجنين المتحول من تراب الى نطفة الى طفل .. ان جعل له عمراً محدداً يعيشه في هذه الدنيا ، ليفتتن فيها ويمتحن .
ان اعمار العباد كلها مكتوبة عند الله سبحانه ، بدقة ، سواء من طال فيها عمره ، او من قصر . ان طول وقصر عمر الانسان بدوره يعتمد على عوامل كثيرة ، يمكن ان نجعلها تحت عنوان واحد ، هو السير في اطار السنن الالهية او مخالفتها ، ففي الاول يطول عمر الانسان ، بسبب مراعاته للاداب الشرعية المؤثرة في طول العمر ( الاطعمة والاشربة وطريقة اللبس ، وعموماً طريقة المعيشة) اضافة الى رعاية الاخلاق الاسلامية ( لما للتوترات العصبية الاثر السلبي الكبير على عمر الانسان) ، مضافاً الى الالتزام بتعاليم الدين في صلة الرحم ، وبذل الصدقة ، و..
وفي الثاني يكون قصر عمر الانسان بسبب افعاله هو في مخالفة الفطرة السليمة، والسنن الالهية المودعة في الخليقة.
وبعد بيان كون الله عالماً بكل اعمار العباد، طالت او قصرت، تبيانٌ بأن العلم بهذه الامور سهلةٌ يسيرةٌ على الله سبحانه، حتى لو بلغت اعداد البشر المليارات.
وفي الاية بصيرةٌ تنفع المتدبر في حياته:
ان الاية ذكرت مراحل الخلقة : تراب .. نطفة .. حالة البلوغ والرشد .. ، انها تدل على ان هناك مراحل لابد ان يسير فيها الانسان ليصل الى الهدف ، وكما يصدق الامر هذا على الامور المادية ، فانه يصدق ايضاً على الامور المعنوية ، فلابد للمرء ان يعبر المراحل ، مرحلة تلو اخرى.
ولا يظنن احدٌ بأن الايمان والكفر درجتان متقاربتان من بعضهما ، بأن يكون الحصول على الايمان امرٌ يسير ، كلا ان المسافة بين الايمان والكفر، هي المسافة بين الجنة والنار، والاولى درجات كما ان الثانية دركات ، فالمسافة اذاً بعيدة والمراحل كثيرة ، ولابد للانسان ان يبدأ بطي هذه المراحل مبتدءاً بالسير من حضيض الجهل والضلال الى قمم المعرفة والهدى.
تنزيل: [نشرة البصائر الرمضانية العدد 11]