Search Website

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس الخامس عشر

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس الخامس عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى‏ حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ‏ءٌ وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ إِنَّما تُنْذِرُ الَّذينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصيرُ (18)}

 تعاني البشرية من مشكلة حادة في تفكيره ، التي لو لم يعالجها في ذهنه فانه سيبقى يعيش في تخلف وضلال مبين ، وتلك المشكلة تكمن في محاولة الانسان التخلي من تحمل المسؤولية ، عبر القائها على عاتق الاخرين.

ذلك لأن المسؤولية ثقيلة عليه ووطئتها شديدة ، ولذلك فانه يحاول تبرئة نفسه من مغبتها و يلقي بتبعات اعماله على الاخرين ، لكيلا يكون هو المسوؤل ، ولا فرق ان يكون الاخر متمثلاً بالاشخاص المحيطين به ، من الاهل والاصدقاء والمجتمع ، او يكون الاخر شيئاً كالدهر واختلاف الليالي والايام ، بل قد يصل الامر الى البعض انهم يحملون الله سبحانه مسؤولية اخطاءه وانحرافاته – تعالى الله عن ذلك- .

وهكذا يظن الواحد انه قد اخلى عاتقه من ذلك الحمل الثقيل ، جاهلاً بأن ظنونه واوهامه لن تغير من الواقع شيئاً.

التوبة تحمل المسؤولية

من الاعمال التي يقوم بها الكثير من الناس بشكل ظاهري وسطحي دون الالتفات الى اللباب ، هو الاستغفار وطلب التوبة من الله سبحانه ، فقد يتوب الانسان بلسانه رغم فراره من تحمل المسؤولية ، وهذا الشخص لا تكون توبته الا لقلقة لسان، ذلك لأن جوهر التوبة وحقيقة الاستغفار هو تجمل المسؤولية ، فحينما يطلب المرء من ربه المغفرة ، فانه يقرّ بانه هو المسؤول عن اخطاءه وانحرافاته ، وهكذا فان من يتوب الى الله بصدق نية وتحمل مسؤولية ، يغفر الله له ذنبه ، ويرفعه الى درجات عالية ، فقد قال ابو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام : «إِذَا تَابَ الْعَبْدُ تَوْبَةً نَصُوحاً، أَحَبَّهُ اللَّهُ، فَسَتَرَ عَلَيْه‏)[1] ، وقال عليه السلام ايضاً: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُفَتَّنَ‏ التَّوَّابَ ) [2]، حتى الانبياء العظام ، كان الله يفتنهم الله بفتنة ، فيتركوا الاولى ، وحينها يستغفرون الله سبحانه ، فيرفعهم الله باستغفارهم مكاناً علياً ، كما يحدثنا القرآن الكريم عن قصة النبي داود عليه السلام حيث يقول سبحانه : ( قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلىَ‏ نِعَاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الخلَطَاءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلىَ‏ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ عَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَ قَلِيلٌ مَّا هُمْ وَ ظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ رَاكِعًا وَ أَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَالِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى‏ وَ حُسْنَ مَئابٍ* يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فىِ الْأَرْضِ فَاحْكُم بَينْ‏َ النَّاسِ بِالحقّ‏ِ وَ لَا تَتَّبِعِ الْهَوَى‏ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحسَابِ*)[3].

ومن هنا نجد نصوص الادعية تزخر بعبارات الاعتراف بالذنب وتحمل الانسان كامل المسؤولية تجاه اخطاءه وذنوبه ، لكيلا يلقي باللائمة على الاخرين ، مثل قول الامام زين العابدين ، عليه السلام في دعاء ابي حمزة الثمالي : (ُ أَنَا يَا رَبِّ الَّذِي لَمْ أَسْتَحْيِكَ فِي الْخَلَاءِ وَ لَمْ أُرَاقِبْكَ فِي الْمَلَإِ أَنَا صَاحِبُ الدَّوَاهِي الْعُظْمَى أَنَا الَّذِي عَلَى سَيِّدِهِ اجْتَرَى أَنَا الَّذِي‏ عَصَيْتُ‏ جَبَّارَ السَّمَاءِ أَنَا الَّذِي أَعْطَيْتُ عَلَى مَعَاصِي الْجَلِيلِ الرِّشَا أَنَا الَّذِي حِينَ بُشِّرْتُ بِهَا خَرَجْتُ إِلَيْهَا أَسْعَى أَنَا الَّذِي أَمْهَلْتَنِي فَمَا ارْعَوَيْتُ وَ سَتَرْتَ عَلَيَّ فَمَا اسْتَحْيَيْتُ وَ عَمِلْتُ بِالْمَعَاصِي فَتَعَدَّيْتُ وَ أَسْقَطْتَنِي مِنْ عَيْنِكَ فَمَا بَالَيْت‏)[4].

الخليقة والمسؤولية

ان الله حمّل بني آدم امانة المسؤولية ، دون سائر خليقته ، ذلك لأن الانسان هو الذي تحملها بعد ان اشفقت السماوات والارض والجبال منها وابين ان يتحملنها ، ولذلك فانه لا يقدر على التخلي منها ابداً ، قال الله سبحانه : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولا)[5]، فلا يمكن للانسان ان يبرء نفسه بالقاء اللوم على الاخرين.

وهذه الاية من سورة فاطر ، تشير الى هذه الحقيقة في قوله تعالى :

{وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ }

كل شخص مسؤولٌ عن عمله ، فهو الذي يتحمل اعباء اعماله ، وكل نفس تحمل اوزارها .

الوزر هو الحمل الثقيل تشبيها بوزر الجبل ، و ورود لفظ ( وازرة) بصيغة المؤنث ، يدل على ان النفس هي الوازرة ، فقد يكون حديث القرآن عن الانسان ، وحينها يكون بصيغة المذكر ، اما ان كان الحديث عن نفسه الداخلية – التي هي المحركة والباعثة الاساسية له – فان الحديث يكون بصيغة المؤنث.

ولكن لماذا لا تحمل النفس وزر الاخرى؟

ذلك لأن لكل شخص وزرٌ ينوء به ، فلا يقدر على ان يحمل فوق ما هو حامله ، حتى لو كان ذلك الثقل من اقرب الناس اليه واحبهم لديه ، ففي القيامة يفر المرء من ابيه وصاحبته وبنيه وعشيرته التي تأويه ، لكيلا يعرضوا عليه حمل اثقالهم فوق اثقاله.

وقد رأى بعض الاصحاب امير المؤمنين عليه السلام يحمل زنبيلاً على ظهره ، فطلب منه ان يحمله عنه الى مبلغه ، فقال له الامام عليه السلام : مَنْ يَحْمِلُ وِزْرِي عَنِّي يَوْمَ الْقِيَامَة؟؟[6].

وهكذا ؛ فان على المؤمن ان يسعى جاهداً في التخلص من تلك الاوزار في هذه الدنيا قبل ان تنتهي فرصته للتخلص من الذنوب والقبائح.

{ ‏ وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى‏ حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ‏ءٌ وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ }

في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه واله : (… كَذَلِكَ قِيلَ الْأُمُّ تَلْقَى وَلَدَهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَتَقُولُ يَا بُنَيَّ أَ لَمْ يَكُنْ بَطْنِي لَكَ وِعَاءً فَيَقُولُ بَلَى يَا أُمَّاهْ فَتَقُولُ أَ لَمْ يَكُنْ ثَدْيَيَّ لَكَ سِقَاءً فَيَقُولُ بَلَى يَا أُمَّاهْ فَتَقُولُ لَهُ إِنَّ ذُنُوبِي أَثْقَلَتْنِي فَأُرِيدُ أَنْ تَحْمِلَ عَنِّي ذَنْباً وَاحِداً فَيَقُولُ إِلَيْكَ عَنِّي يَا أُمَّاهْ فَإِنِّي مَشْغُولٌ بِنَفْسِي فَتَرْجِعُ عَنْهُ بَاكِيَة)[7]، وكما حال الام ، كذلك حال سائر الارحام ، في طلبهم تحميل الوزر وتخفيفه عن ظهورهم ، لكن دون جدوى ، فأنّى للانسان ان يتخلص من ثقله في ذلك اليوم العسير ، الذي ينادي فيه الجميع ( نفسي ، نفسي).

{ إِنَّما تُنْذِرُ الَّذينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ }

ان سبيل الخلاص في ذلك اليوم هو الاستماع الى النذير ، عبر تصفية القلب وتنقيتها من الشوائب ، ليكون القلب قابلاً للموعظة والانذار ، لأن القلوب القاسية لا تستقبل المواعظ كما الصفا لا يدخله الماء.

انذار الانبياء لا ينفع الجميع ، انما ينفع من خشي ربه بالغيب ، وعرف الله بقلبه ، فالناس ليسوا سواسية في ايمانهم وخشيتهم من الرب ، فقد يكون الواحد يخشى الله عندما يكون في اجواء ايمانية ، بين المؤمنين ، فيتحمل بذلك مسؤوليته تجاه الامانة ، ولكنه ينسى كل ذلك بعد حين ، وعلاج هذه الحالة يكون بالاستمرار في عمل الخير ، خصوصاً اقامة الصلاة وايتاء الزكاة.

ومن يفعل ذلك فانه لا يقدم الخير الا لنفسه ، لأنه بذلك يخفف عن اوزاره ويضيف الى كفة حسناته حسنات ، ويقدم لأخرته جزيل الثواب ، فقد روي عن عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله : أَنَّهُ ذَبَحَ شَاةً فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَاطَّلَعَ عَلَيْهَا فُقَرَاءُ الْمَدِينَةِ فَجَاءُوا وَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه واله وَ كَانَ يُعْطِيهِمْ فَلَمَّا دَخَلَ اللَّيْلُ لَمْ‏ يَبْقَ‏ مِنْهَا إِلَّا رَقَبَتُهَا فَسَأَلَ عَنْ عَائِشَةَ مَا بَقِيَ مِنْهَا فَقَالَتْ لَمْ‏ يَبْقَ‏ مِنْهَا إِلَّا رَقَبَتُهَا فَقَالَ صلى الله عليه واله: قُولِي بَقِيَ كُلُّهَا إِلَّا رَقَبَتَهَا.[8]

{ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصيرُ}

شئنا ام ابينا فان مرجعنا ومصيرنا الى الله سبحانه وتعالى ، ولابد ان نصلح شأننا قبل المصير الى رب الارباب.

تنزيل: [نشرة البصائر الرمضانية العدد: 15]

 ——-

[1] الكافي : ج4: ص 234

[2] المصدر: ص 231

[3] ص : 24-26

[4] مصباح المتهجد وسلاح المتعبد : ج2 ، ص 589

[5] الاحزاب : 72

[6] بحار الانوار : ج41 ،ص 52

[7] ارشاد القلوب الى الصواب: ج1 ، ص57

[8] مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل: ج7 ، ص 266