Search Website

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس السادس عشر

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس السادس عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصيرُ (19) وَ لاَ الظُّلُماتُ وَ لاَ النُّورُ (20) وَ لاَ الظِّلُّ وَ لاَ الْحَرُورُ (21) وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لاَ الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)}

في الاية الكريمة تذكيرٌ لبعض البصائر التي مرّ ذكرها في الايات الماضية منها :

اولاً: ان طلب الهداية وقبول الحق من مسؤوليات الانسان الثقيلة ، صحيحٌ ان الله سبحانه هو الذي يهدي من يشاء الى صراطه ، الا ان توفير شروط الهداية ومقدماتها من مهام الانسان نفسه.

ثانياً: ان من الصعب جداً ، التمييز بين الحق والباطل ، في هذه الدنيا ، ذلك لأن الدنيا مخلوقة من مزيجٍ بين الجنة والنار ، وكذلك الانسان له جانبان ، نوريٌ وناري ، وهكذا سائر المخلوقات ، خلقت ولها هذين الجانبين ، وعليه ؛ فإن من الصعب التمييز بين جانبي الحق والباطل ، قال امير المؤمنين عليه السلام : (وَ إِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لِأَنَّهَا تُشْبِهُ‏ الْحَق‏)[1] ، ففي كل يوم يواجه المرء مواقف متشابهة يصعب عليه اتخاذ الموقف المتناسب والقيم .

فما هو طريق التشخيص والتمييز ، المفروض على المؤمن ؟

في الاجابة نقول ، ان القرآن الكريم يفيض على قارءه بالهدى في كل جوانب حياته ، فبدءاً من اية ( اهدنا الصراط المستقيم ) واية ( هدىً للمتقين ) وسيراً الى اخر الكتاب الكريم ، بيانٌ لحلول معضلات البشر في مختلف الجوانب ، ومن التزم بكلها فقد التزم الصواب ، واستنار له درب الهدى ، وهكذا قال الامام امير المؤمنين عليه السلام في مناجاته الشعبانية: (إِلَهِي إِنَّ مَنِ‏ انْتَهَجَ‏ بِكَ‏ لَمُسْتَنِيرٌ وَ إِنَّ مَنِ اعْتَصَمَ بِكَ لَمُسْتَجِير)[2].

وفي الكتاب طرقٌ مختلفة للهداية ، ولكنا نشير الى جانب من تلك الطرق عبر بيان بعدين يمكن للمرء ان يقوم بالتمييز عبرهما بين الحق والباطل:

البعد الاول: التمييز الداخلي :

كما ذكرنا في الدروس السابقة ، ان في قلب كل واحد منا اذينين ، على احدهما شيطانٌ يوسوس له ويزين له القبائح ، وعلى الاخر ملك يزجره عن ارتكاب المعاصي ، ويبقى الانسان محتاراً بين تلبيس ابليس ، للحق والباطل ، وبين هدى الملائكة ، وعليه ان يختار الصواب بارادته التي وهبها الله سبحانه له ، عبر ترجيح كفة الحق على الباطل.

ومن هنا ؛ فإن المؤمنين يسعون دوماً في تقوية جانب الحق في قلوبهم ، ليتغلبوا على باطل شياطينهم ، فتراهم يسرعون الى محراب الصلاة ليحاربوا شياطينهم و وساوس نفوسهم ، ويسعون جاهدين في ان يقبلوا الى الصلاة بقلوبهم ، لأنهم يعرفون ان الله لا يقبل من العبد صلاته الا ما اقبل عليها.

اما البعد الثاني ، فهو لاحقٌ للاول ، بمعنى انه يكون نتاج لمقدرة الانسان على التمييز بين الحق والباطل في داخله ، حيث يبدأ بذلك وينتهي الى مقدرته التمييز بين الحق والباطل ، الخير والشر ، الصواب والخطأ ، الهدى والضلال ، على ارض الواقع في المصاديق الخارجية.

في الحديث عن امير المؤمنين عليه السلام : (قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ‏ وَ أَمَاتَ‏ نَفْسَهُ‏ حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ وَ لَطُفَ غَلِيظُهُ وَ بَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كَثِيرُ الْبَرْقِ فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ وَ سَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ وَ تَدَافَعَتْهُ الْأَبْوَابُ إِلَى بَابِ السَّلَامَةِ وَ دَارِ الْإِقَامَةِ وَ ثَبَتَتْ رِجْلَاهُ بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ الْأَمْنِ وَ الرَّاحَةِ بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ وَ أَرْضَى رَبَّه‏)[3].

ان المؤمن الحقيقي – كما وصفه الامام عليه السلام – قادرٌ على التمييز بين الحق والباطل بيسر وسهولة ، ذلك لأنه حارب شهوات نفسه فاماتها ، واتبع هدى عقله فاحياه ، وبذلك صارت له مقدرة على الملاحظة الدقيقة للأمور كلها ، وحصل على فراسة للتمييز بين الحق والباطل ، وتوسماً للتفرقة بين الصواب والخطأ ، فهو بالتالي استحصل ملكة تشخيص الحق و الباطل ، حتى لو التبس الباطل بلباس الحق وتشابه للناس.

{وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصيرُ(19) وَ لاَ الظُّلُماتُ وَ لاَ النُّورُ (20) }

تتسائل الاية الكريمة عن امور يعرفها الجيمع ، هل هناك مساواة بين الاعمى والبصير؟ او هل ينكر احدٌ عدم ذلك؟

كلا ،  اوهل هناك مشابهة بين الظلمات والنور ؟ ام هل تستوي الشمس المحرقة مع الظل البارد ؟ كلا ، ان الجميع يعرف كل ذلك ، فلماذا يبين القرآن امراً بيّنا للجميع؟

ان ذلك لأن الناس يتفقون معظم الاحيان على الامور الكلية ، الا انهم يفتقدون البوصلة في التفاصيل الدقيقة ، فالجميع يتفق على عدم التساوي بين الاعمى والبصير ، ولكنهم يختلفون في تعريف البصير ، وتعريف الاعمى ، واساساً يختلفون عمن هو اعمى او من هو بصير ، لأنهم يجهلون مراتب العمى ؟

ان نور الشمس بيّن ، الا ان النور الخافت قد يجهله الناس لغفلة او تغافل ، وقد ادّى عدم الالتفات الى التفاصيل بالانسان الى محاولته الخلط بين الحق والباطل ، كما حاول كثير من الناس – ولا يزالون – الخلط بين البيع الذي حلله الله والربا المحرم عند الرب عزوجل ، حتى قال الله عنهم : (الَّذينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى‏ فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فيها خالِدُون‏)[4]

ومثال اخر من هذا الخلط ، هو خلط الكثير من الناس بين علي عليه السلام واعداءه ، او قول قائلهم : ( حجر بن عدي رضي الله عنه ، الذي قتله معاوية رضي الله عنه ، لانه لم يتبرء من علي رضي الله عنه)!!

وهكذا تأتي الايات المباركة لتكشف لنا التفاصيل الدقيقة للحقائق :

فالعمى ليس عمى البصر فحسب ، بل ان بصيرة الانسان قد تصاب بالعمى ، فتظل طريق الجنة ، حتى ياتِ ربه متساءلاً: (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَني‏ أَعْمى‏ وَ قَدْ كُنْتُ بَصيرا؟ )[5] فيأتيه جواب الرب عزوجل : (قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى‏ * )[6]. وقال تعالى : (وَ مَنْ كانَ في‏ هذِهِ أَعْمى‏ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى‏ وَ أَضَلُّ سَبيلا)[7].

و كذلك فان النور درجات ، كما ان الظلمة دركات ، فاختلاف الناس قد يكون في الدرجات والمراحل.

{ وَ لاَ الظِّلُّ وَ لاَ الْحَرُورُ }

الحرور : اليوم والليلة شديدة الحر ، وذلك من اثر  الشمس المحرقة .

ان الظل البارد لا يستوي مع اشعة الشمس ابداً.

{وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لاَ الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)}

ان الميت ، قد يكون ميتاً كلياً وقد يكون ميتاً بسبب النوم ، او يكون ميتاً بموت قلبه ، كل هؤلاء لا يتساوون مع من ينبض قلبه بالحياة والحيوية.

وهكذا فإن من اصيب بموت القلب او موت الجسد ، لا يمكن للنبي صلى الله عليه واله ، او الداعية ، ان يسمعه كلام الحق ، بل ان الله سبحانه هو الذي يهدي من يشاء الى صراط مستقيم.

وهكذا تسوق الايات القرآنية الامثلة الواضحة في التمييز بين المتناقضات ، لتذكرنا بأن من المستحيل ان يتفق الحق والباطل في يوم ما.


[1]  نهج البلاغة : من كلام له عليه السلام في بيان تسمية الشبهة ثم بيان حال الناس فيها.

[2]  اقبال الاعمال : ج2 ، 278

[3] نهج البلاغة : من كلام له عليه السلام،  في وصف السالك الطريق إلى اللّه سبحانه‏.

[4] البقرة : 275

[5] طه  125

[6]  طه : 126

[7] الاسراء : 72