Search Website

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس السابع عشر

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس السابع عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لاَ الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشيراً وَ نَذيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فيها نَذيرٌ (24)}

( خلا فيها نذير )

بصائر عدة تحويها هذه الايات المباركة من سورة فاطر ، لابد لنا ان نستفيد منها قدر امكانيتنا ووعينا ، وان نستنير بهذه الايات وبصائرها في حياتنا ، اليست منهجية القرآن الكريم انارة الدرب للحياة الكريمة؟

البصيرة الاولى : ان الأمر كله بيد الله سبحانه وتعالى ، في كل الامور ، فقد يهيء الانسان جميع الاسباب الظاهرية ، لكن ان لم يكن الله قد اراد ذلك الشيء فلن يكون ، فمثلاً لو تزوج الانسان و كان هو وزوجته في اتم الصحة ، فهل مجرد ذلك يكفي في حصول الحمل ؟

كلا ، بل ان ارادة الله ومشيئته تبقى مهيمنة على كل شيء  ، كذلك فان الذهاب الى المدارس والحضور عند الاساتذة ومطالعة السواد على البياض ، لن ينتج علماً ، لأن العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء.

وكما العلم ، كذلك الهدى ، هو من عند الله سبحانه وتعالى في نهاية المطاف ، فمجرد حضور المرء في مجالس الوعظ والارشاد و الاشتراك في حلق الذكر ، انه لن يسبب في القلب هدى ، من دون مشيئة الباري عزوجل.

ومن هنا ؛ فإن في الاية الكريمة تذكيرٌ للنبي بهذه الحقيقة ، فدور النبي صلى الله عليه واله ، والدعاة الى الله ، ينتهي عند حدود الابلاغ والانذار ، لا اكثر ، اما الباقي فعلى الله عزوجل.

(أوحى اللَّه إلى إبراهيم عليه السلام أن اصعد أبا قبيس فناد في الناس يا معشر الخلائق إنّ اللَّه يأمركم بحجّ هذا البيت الذي بمكّة محرّماً من استطاع إليه سبيلًا فريضة من اللَّه فمدّ اللَّه لإبراهيم عليه السلام في صوته حتى اسمع به أهل المشرق و المغرب و ما بينهما من جميع ما قدر اللَّه و قضى‏ في أصلاب‏ الرجال من النّطف و جميع ما قدر اللَّه و قضى في أرحام‏ النساء إلى يوم‏ القيامة[1]).

وهكذا كان المؤمنون دائماً يسألون الهداية والعلم والرزق و.. من الله سبحانه ، لأنهم يعرفون انه هو المعطي و المانع ، بالرغم من انهم كانوا يسعون في توفير المقدمات والاسباب الظاهرية التي كلفهم الله بها.

البصيرة الثانية: تكررت كلمة ( النذير) ثلاثاً في هذه الايات ، في حين ان لفظة ( البشير) لم ترد الا مرة واحدة ، ذلك لأن افاق الانسان ضيقة ، وبصيرته محدودة ، فكما يقال انه لا يرى الا حد انفه ، ومن ذلك عدم اهتمامه بالارتقاء بقدر اهتمامه وحرصه على الحفاظ على المكتسبات الموجودة لديه.

ومن هنا كان الانذار اشد وقعاً وتأثيراً في نفوس الناس من البشارة ، ذلك لأنهم قد اكتسبوا اموراً يخافون خسرانها ، فيحذرهم الانبياء وينذرونهم من مخالفة امر الله ، لأنه يؤدي الى خسران ما يملكون.

فبالرغم من كون الانبياء مبشرين ومنذرين ، الا انهم ركّزوا كثيراً على جانب الانذار في تبليغ الرسالات الالهية للبشر.

البصيرة الثالثة: كان هدف الانبياء ايصال الناس الى الجنة ، وتوفير حياة كريمة لهم ، فكان الهدف حقاّ ، ولكنهم لم يكتفوا بذلك ، بل ان طريق الوصول الى ذلك الهدف الحق ، كان حقاً ايضاً ، فلم يستفد الانبياء من الباطل ابداً ، في سبيل ايصال الناس الى الحق.

و في هذا الامر درسٌ لمن اراد الدعوة الى الله سبحانه وتعالى ، فالعالم والخطيب والواعظ ، الذي يهدف ايصال الناس الى الاهداف السامية ، لا يجوز له ان يختار طرقاً ملتوية للوصول الى ذلك الهدف ، وان كان الهدف حقاً . ومن هنا ؛ فإن على هؤلاء ان يبينوا الدين على حقيقته ، لا ان يزيدوا منه تارة وينقصوا منه اخرى  ، وهذا الامر ينطبق على ادق الامور المتعلقة بالشريعة المقدسة ، فلا يجوز لاحد ان يقول مثلاً ( الصيام عمود الدين ) لأنها ليست كذلك ، بل هي ( جنة من النار).

البصيرة الرابعة : ان الله سبحانه يأمر نبيه بالابلاغ ، فان لم يستجيب الناس ، فانه لا يجبرهم على تطبيق التعاليم والالتزام بها ، فالانبياء والدعاة الى الله سبحانه لا يكرهون احداً على الهدى ، قال تعالى : (وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنين‏)[2] ، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى لم يكره احداً على اتباع دين او شريعة.

وابلاغ الانبياء ينتهي حين يفهم الناس ان الصلاح والنفع في اتباعهم ، والخسارة والعذاب لمن عصى امرهم ، عبر بيان قصص الامم الغابرة التي اخذها الله بانواع العذاب حين عصوا رسل ربهم.

وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لاَ الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}

المخاطب في الاية ، هو رسول الله صلى الله عليه واله ، ولكنه يشمل – ايضاً وبالتبع – جميع الدعاة الى الله السائرين في خط رسول الله صلى الله عليه واله ، الدال على عدم اكراه الناس على اتباع الهدى والحق.

إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذيرٌ}

ما دام ان امر الهداية بيد الله سبحانه ، فعلى الداعية ان لا يتأثر – نفسياً- بكفر الناس وعدم استجابتهم لدعوته ، حتى بالنسبة الى امره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، بل يعلم انه قد أدّى ما عليه من تكليف.

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشيراً وَ نَذيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فيها نَذيرٌ}

ارسال الرسول كان بالحق ، بمعنى ان الهدف كان حقاً والطريقة المتبعة حقة ايضاً.

والرسول يبشر الناس بالجنة والحياة الكريمة ، كما يحذرهم وينذرهم عذاب الله عزوجل ، كل ذلك راجعٌ لقرار الناس انفسهم ، فهم يختارون الطريق لأنفسهم .

ولم تكن قضية ارسال الرسول الاكرم صلى الله عليه واله ، بدعة ، فإن الامم جميعاً كان فيها نذير ٌ ينذرهم عذاب الله سبحانه وتعالى.

طرق الانذار

و الانذار يتم بطريقتين:

الاولى : الانذار المباشر ، وذلك عبر البيان اللساني ، بأن يحذر الفرد شخصاً مغبة افعاله وسلوكياته الخاطئة.

الثانية: ان يكون الانذار عبر النتائج المترتبة على الافعال الماضية ، فالانسان الذي جرّب طريقاً لم يوصله الى بغيته ، فإنه لن يسلكه مرة اخرى، لأنه تجربته السابقة تنذره من السير في هذا الطريق مرةً اخرى.

وقد يكون الانذار من خلال استحضار التجارب الشخصية السابقة للمرء ، وقد تكون من خلال الاستفادة من تجارب الاخرين ، فإن السعيد من يستفيد من تجارب الاخرين ، وكما يقول امير المؤمنين عليه السلام : (َ وَ السَّعِيدُ مَنْ‏ وُعِظَ بِغَيْرِه‏)[3].

 تنزيل: [نشرة البصائر الرمضانية العدد: 17]


[1] تفسير الصافي : ج3 ، ص 94

[2] يونس : 99

[3]  بحار الانوار : ج 32: ص 538