
تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس الثامن عشر
05 Jun 2023بسم الله الرحمن الرحيم
{وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنيرِ (25)}
بعثة الانبياء
خطابات القرآن الكريم ليست محصورة بمن خوطب بها ، فقد روي عن ابي عبد الله الصادق عليه السلام انه قال :: «نزل القرآن ب (إياك أعني و اسمعي يا جارة)»[1] ، فقد توجه الاية الكريمة خطاباً للنبي صلى الله عليه واله ، الا ان ذلك لا يعني انها محصورة فيه ، او انها تعنيه دائماً ، بل الخطاب يشمل من يسير بسيرة النبي صلى الله عليه واله ، كلٌ بقدره.
ففي هذه الاية ، اخبارٌ عن تكذيب الناس للرسل والنذر ، وهذا يعني ان الداعية الى الله ، السائر في خط الرسول الاكرم صلى الله عليه واله ، والانبياء من قبله ، بدوره – أيضاً – سيواجه بالتكذيب من قبل الناس ، و عليه ؛ فلابد ان يستحضر الدعاة قصص الانبياء في اقوامهم ، وكيف ان الامم التي كذبت رسل ربها ، اخذها الله سبحانه بالعذاب والهلاك.
ذلك لأن الانبياء لم يأتوا الا ومعهم الادلة والبراهين والبينات على صدق ما جاءوا به ، ففي التكذيب بهم – مع تلك البينات – اظهارٌ للاصرار والعناد على الكفر والشرك من قبل الناس ، الامر الذي يستوجبون به عذاب الله عزوجل.
اتجاهات المجتمع
في أي مجتمعٍ من المجتمعات ، لابد من وجود اتجاهين وحزبين ، اولهما حزب الله سبحانه وتعالى ، فكل من يؤمن بالله عزوجل ، ويعمل الصالحات ، ويصطبغ بصبغة الله ، فانه من حزب الله عزوجل ، سواء كان ابيضاً او اسوداً ، من شرق الأرض او غربها ، عربياً او أعجمياً ، فلا فرق في تلك الفوارق المادية ، ما دامت القلوب متحدةً على الايمان بالله عزوجل ، ففي الحديث عن الامام الباقر عليه السلام : ( الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ لِأَبِيهِ وَ أُمِّهِ، وَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْمُؤْمِنَ مِنْ طِينَةِ جِنَانِ السَّمَاوَاتِ وَ أَجْرَى فِي صُوَرِهِمْ مِنْ رِيحِ رُوحِهِ فَلِذَلِكَ هُمْ إِخْوَةٌ لِأَبٍ وَ أُمٍّ)[2] ، وهكذا كانت طينة المؤمنين بالله واحدة منذ الخلقة ، فهم متحدون في الدنيا ايضاً ، ففي الحديث (اللهم إن شيعتنا منا خلقوا من فاضل طينتنا و عجنوا بماء ولايتنا ..)[3].
وفي قبال هؤلاء المؤمنين ، يكون اتباع الشيطان وحزبه ، و بين الحزبين صراعٌ دائم ، منذ خلقة النبي ادم عليه افضل الصلاة والسلام ، والى ان يأذن الله.
وما دامت الصراعات مستمرة ، تخف حيناً وتشتد احياناً ، فلابد للمؤمن ان يستعد لمواجهة الاعداء في الصراع ، وخصوصاً ان يهيء نفسه في قبال الشبهات والتشكيكات التي يلقيها القوم ليزلزلوا المرء ويحرفوه عن عقيدته وايمانه.
{وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ }
فالحديث – كما ذكرنا – لا يختص بالنبي صلى الله عليه واله ، بل يشمل الدعاة الى الله الذين يلاقون التكذيب من قبل الناس.
ودليل وجود التكذيب وضرورة عدم التأثر النفسي به ، هو ما بدر من قبل الامم السابقة تجاه انبياءهم ودعوتهم الى الحق والهدى ، من تكذيب واستهزاء واعراض ، فلابد من الاعتبار من تجارب الاخرين لأن المرء لا يقدر على ان يعمّر لحياتين ، يجرب في الاولى ويستفيد من التجارب في الثانية ، بل هي حياة واحدة ، ولابد له ان يستفيد من تجارب الامم السابقة.
والاية تبّين ان الامم السابقة كذبت الرسل ، بنفس ما تكذب به الامة العربية ، رسولها المرسل اليهم.
{ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنيرِ}
الرسل جاءوا الى اقوامهم ليهدوهم ، ويخرجوهم من ضلالتهم وانحرافهم ، لكنهم لم يكونوا من دون ادلة تثبت صدقهم ، فبم جاءوا اقوامهم ؟
أ – بالبينات.
ب – بالزبر.
ت – بالكتاب المنير.
اولاً: البينات
البينة في الاية ، تعني ( المبينة) ، ذلك ان المصدر يرد بمعنى الفاعل احياناً، ويرد اخرى بمعنى المفعول ، وههنا وردت لفظة المصدر ( البينة ) بمعنى الفاعل ، فالبينة هي ما تبين صدق الرسول.
وكانت البينة عند الرسل انواع:
الاول: الفطرة
ان الله سبحانه وتعالى خلق الناس وفطر فيهم فطرةً على الدين القيم و الاتجاه السليم ، اذ ان كل شخص يؤمن في قرارة نفسه بوجود خالق واله ، وحسن الخير ، وقبح الشر ، ولكن الايمان هذا لا يستمر لوجود تيارات الشهوات والعصبيات التي تعصف بقلب الانسان فتحوله رأساً على عقب ، ففي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه واله : كُلُ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يَكُونَ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَ يُنَصِّرَانِهِ وَ يُمَجِّسَانِه[4].
والرسل تأتي لترجع الناس الى تلك الفطرة في داخل كل واحد منهم ، فاذا ما عاد الواحد الى فطرته فانه يرى الحقيقة واضحةً ، وهذا دليلٌ وبينةٌ على صدق الرسل ، في الحديث عن امير المؤمنين عليه السلام : (ِ فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِه)[5].
الثاني : الحياة الطيبة
تروم المجتمعات حياةً طبيةً كريمة ، وكان الانبياء يأتون اليهم بمناهج للحياة الطيبة – ان امنوا بها وساروا على وفقها- ، فكانت دعوة الانبياء والرسل محققة لطموحات المجتمعات والامم ، فمثلاً حين قدم النبي الاكرم صلى الله عليه واله الى يثرب ، وكانت تسمى بهذا الاسم لكونها مدينة ملئى بالامراض والمياه الاسنة و .. ، حوّل تلك المدينة الى ( طيبة ) بعد فترة وجيزة ، فبعد ان انهى بناء مسجده ، توجه الى الزراعة واصلاح الاراضي والقضاء على المستنقعات والامراض.
اليست هذه بينةٌ على صدق الرسل ، و كون رسالاتهم نافعة للدنيا قبل الاخرة ؟ اوَلم يقل النبي صلى الله عليه واله : (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَدْعُوكُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ- وَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَ آمُرُكُمْ بِخَلْعِ الْأَنْدَادِ وَ الْأَصْنَامِ- فَأَجِيبُونِي تَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَبَ وَ تَدِينُ لَكُمُ الْعَجَمُ وَ تَكُونُوا مُلُوكاً فِي الْجَنَّة)[6].
الثالث: بناء الانسان
يهدف الناس جميعاً ان يكونوا صالحين ، الا ان ضغوط الحياة ، تمنعهم من الوصول الى هذه القمة العالية ، الا ان في داخل كل واحد من الناس حبٌ للصلحاء.
وكان الانبياء عليهم الصلاة والسلام ، يقومون ببناء الكوادر الصالحة ، والمؤمنة ، الذين كانوا في قمة القمم ، كالحواريين وخلّص اصحاب رسول الله صلى الله عليه واله.
وقد قدّم الرسول الاعظم صلى الله عليه واله بينةً للعالمين على انه نبيٌ مرسلٌ من الله عزوجل ، بتربية شخص علي ابن ابي طالب عليه السلام ، فكانت شخصية امير المؤمنين خير دليل على نبوة النبي الاكرم صلى الله عليه واله.