Search Website

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس التاسع عشر

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس التاسع عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

 { أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابيبُ سُودٌ (27) وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ غَفُورٌ (28)}

 طريق تنمية الايمان

في سياق الحديث عن موضوع الايمان ، لنا ان نتسائل عن كيفية تنمية ايمان المرء ، وايات سورة فاطر ، بعد ان بينت لنا طرق تزكية القلب وتطهيره من الادران والشوائب المانعة من دخول نور الايمان في القلب ، مثل حب الدنيا ، او نسيان الاخرة ، و الاعتقاد بالافكار والاوهام الباطلة ، بعد كل ذلك تتحدث لنا عن الايمان وطرق تنميته.

فلو تمكن الانسان من تطهير قلبه ، فلابد لقلبه ان يكون حينها دوحة للايمان ، باشجار كثيرة وغصون متدلية ، وثمار طيبة ، ذلك لأن شجرة الايمان تؤتي اكلها كل حين باذن ربها.

للوصول الى الايمان العميق ، هناك طرق عديدة ، يحدثنا السياق عن واحدة من اهمها ، وهو طريق التفكير في الخليقة ، على انها مخلوقة لله سبحانه وتعالى ، فانزال الماء واخراج النبات المختلف من مصدر واحد ، لدلائل على الرب العزيز ، ومن خلال وعي هذه الحقائق والتأمل فيها يزداد المؤمن ايماناً بربه الغفور.

{ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً}

الخطاب لم يرد بصيغة الجمع ( الم تروا) بل جاء مخاطباً شخصاً واحداً ، وذلك الشخص هو كل تالٍ للقرآن الكريم ومتدبر في اياته ، ذلك لأن الانسان هو المسؤول عن الايمان والهدى ، لا غيره ، فلا يمكن لاحد ان لا يكون مؤمناً بحجة كونه ضمن مجتمع كافر، بل الفرد الواحد مسؤول عن ايمانه بدءاً ونمواً ، بمعنى ان اصل الهداية من وظائف الانسان ، كما ان التسامي في الدرجات العليا منه ، هي الاخرى من الوظائف الفردية للانسان.

فالانسان يسير في هذه الحياة ، في طريق يجهل منعطفاته و طوله عن قصره ، لأنه دار ابتلاء وامتحان ، ليكون مزرعةً يحصد ثمارها في الاخرة ، وهكذا ؛ فانه لا يعرف ما قد خبئ له من امتحانات وفتن ، ولذلك فلابد له في هذا المسير ان يهيء نفسه بحيث يكون قادراً من تجاوز كل الابتلاءات والامتحانات في الدنيا ، كما يهيء سائق السيارة جميع المستلزمات الضرورية لسيارته من وقود وماء ودهن ، حينما يريد ان يقطع طريقاً مجهول المعالم.

كيف نزداد ايماناً؟

لكن السؤال هو ، كيف لنا ان نقوي ايماننا؟

في الاجابة نقول ، ان الله سبحانه وتعالى ، رسم لنا طريق التسامي في الايمان وتقويته ، وهو طريق سهل ، ان سلكه الانسان فانه يزداد ايماناً بربه ، شريطة ان يبتعد عن الطرق التي خطها شياطين الجن والانس ليضلوا الناس عن ربهم بحجة الوصول اليه ، ومن تلك الطرق ، التأمل في الخليقة.

انزال الماء

فالله عزوجل يدعونا لنرَ كيف ان الله سبحانه وتعالى ينزل الماء من السماء ، في حين ان اصل تواجد الماء هو في الارض ، الامر الذي يحتاج الى تصعيد المياه الى السماء بطرق لا يقدر عليها الا الله سبحانه وتعالى ، ومن ثم ينزل ذلك الماء العذب ، الذي به يحيي الارض ومن عليها.

{فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها }

في الحديث عن انزال الماء قالت الاية ان الله وحده انزله من السماء، ولكن هنا تحول الحديث الى الجمع ، فلماذا ذلك؟

يبدو ان التحولات العظيمة ، التي هي بحاجة الى مجموعة كبيرة من العوامل والاسباب ، كخلقة السماوات والارض ، امورٌ يتحدث عنها القرآن الكريم وينسب ايجادها الى الجمع.

وهكذا فاخراج الثمرات ، امر يحتاج الى كثيرٍ من العوامل ، كالماء والتربة والنور ، و..  – رغم انها جميعاً من الله عزوجل وبيده- ، فلذلك كان الحديث عنها بصيغة اجلمع.

واخراج الثمرات ، يشمل الحبوب والفواكه على الاشجار ، والله اخرجها مختلفة الالوان ، وفي اختلاف اللون حكم واسباب ، منها ان يميز الانسان بين انواعها ، ومنها ان لكل لون يحمل دلالة خاصة به وفائدة يختص بها عن سائر الالوان ، فباختلاف الالوان في الثمار تختلف الفوائد فيها.

وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابيبُ سُودٌ }

والاختلاف هذا ، ليس حصراً على الثمار ، بل يشمل الجبال ايضاً ، وقدمت الاية الحديث عن الثمار على الجبال ، لأنها اقرب الى نظر الانسان ، واذا ما اراد الفرد ان يذهب لرؤية الجبال فلابد له ان يمر على الاشجار والثمار قبل كل شيء..

فالجبال تختلف الوانها بقدرة الله سبحانه وتعالى ، فمنها الابيض والاحمر والاسود ، بل ان الجبل الواحد تختلف الالوان في طبقاته المتختلفة ، وفي كل طبقة نوعٌ خاص من الاحجار والمعادن.

ولكن لم لم يحدثنا القرآن الكريم عن الارض ؟ واختلاف الوان طبقاتها ؟ اليست الارض تحوي بدورها على طبقات مختلفة من الاتربة والالوان؟

في الواقع ان السبب هو ان الارض تعد امتداداً للجبال ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ان الجبال شامخة امام مرأى الانسان ، لا يقدر على انكارها ، اما الارض فاكتشاف تعدد الالوان بحاجة الى حفريات و جهد.

والجدد ، جمع الجادة ، ففي الجبال جدد تسهل حركة الانسان ، وهذه الجدد بالوان مختلفة ، وكل لون بدوره فيه درجات مختلفة شدةً و خفّة.

والغرابيب ، جمع الغراب ، بمعنى السواد ، وقولهم ( الاسود الغربيب ) يراد منه شدة السواد ، كما يقال ( احمر قاني) او ( اصفر فاقع ).

ومزيدٌ من التأمل في الامر ، يصل بالمرء الى اكتشاف حقائق عميقة ، منها ان اختلاف الخصائص في الثمار  – التابع لاختلاف الالوان – هو بسبب اختلاف الاتربة ، والعناصر الموجودة فيها ، فكل نوع من التراب ينفع لزراعة نوع من الثمار ، وذلك يعود لاصل التربة وتشكلها من العناصر المختلفة.

{وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ }

وتبعاً لاختلاف التربة ( الجبال ) تختلف الثمار ، و تختلف ايضاً الناس بالوان متمايزة ، و الدواب بدورها مختلفة حسب المناطق.

ففي كل منطقة من الارض ينمو نوع خاص من الثمار،  وتعيش انواع خاصة من الحيوانات، كما ان البشر هناك يمتازون بميزات ، كاللون وقوة التحمل ضد تحولات الطبيعة والامراض ، بل وحتى الجينات الداخلية فيهم.

فهذه الخليقة كلها ترتبط ببعضها ارتباط الحلقات في السلسلة الواحدة.

ان المزيد من التأمل في هذه الحقائق ، يوصل الانسان الى مرحلة تنكشف عنه الحجب التي تمنعه من الايمان بربه ، فيصل الى مستوى عالٍ من المعرفة والايمان بالله عزوجل.

كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ غَفُورٌ (28)}

لابد للمرء ان يصل الى هذا المستوى من العلم الذي يورث فيه خشية الله سبحانه وتعالى ، و كما قال سيّد الوصيين أمير المؤمنين عليه السّلام «ما رأيت شيئا إلّا و رأيت‏ اللّه‏ قبله‏»[1].

فلابد للمؤمن ان يقتدي بأمير المؤمنين عليه السلام ، الذي كان ينظر الى كل شيء بنور الله سبحانه وتعالى ،  فعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: جَاءَ حِبْرٌ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ حِينَ عَبَدْتَهُ؟ قَالَ: فَقَالَ: وَيْلَكَ لَمْ‏ أَكُنْ‏ لِأَعْبُدَ رَبّاً لَمْ أَرَهُ، قَالَ: وَ كَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: وَيْلَكَ لَا تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ فِي مُشَاهَدَةِ الْأَبْصَارِ وَ لَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ.[2]

وتختم الاية بإسمين من اسماء الله الحسنى ، اولهما العزيز ، الذي يعني القوي الذي ظهرت اثا قدرته ، فلا قاهر له ، وهو سبحانه في الوقت ذاته ، ( غفور) يغفر لمن يشاء من عباده.

تنزيل: [نشرة البصائر الرمضانية العدد: 19]


[1] شرح الكافي ( للمازندراني ) : ج 3 ، ص 108

[2]  الفصول المهمة ، في اصول الائمة ( تكملة الوسائل ) : ج1 ،  ص 180