
تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس: 21
05 Jun 2023الكتاب الحق وطريق الانتفاع به
وَ الَّذي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبيرٌ بَصير*
{ وَ الَّذي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ}
تؤكد الاية على ان الكتاب حق ، و يمكن ان تستفاد ثلاثة معاني من هذه العبارة ، الاول ، ان الكتاب من عند الحق تعالى ، والثاني؛ ان الكتاب حقٌ بما فيه من بيان السنن والمواعظ والاحكام ، والثالث ان الكتاب هو الحق كله.
ويبدو ان المعنى الثالث هو المقصود ، فكتاب الله سبحانه قد احتوى على جميع الحقائق ، فلا حق الا وقد ذكر فيه ، ولا حق عند غيره ، فلا يتصور احدٌ ان هناك حقٌ في غير كتاب الله ، كما لو اراد ان يضيف الى القرآن افكار وفلسفات البشر ، كلا ، ان القرآن بناءٌ واحدٌ ومتين ، لا يحتاج الى اضافة وتكميل من غيره.
و المراد من الكتاب ، هو ما انزل الله منه القرآن الكريم على قلب نبيه العظيم ، فجزء مما حفظه الله واودعه اللوح المحفوظ إنزل على قلب النبي ليكون فرقاناً بين الحق والباطل.
{ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ}
وبالرغم من ان الحق جميعاً عند القرآن ، الا انه يصدق الكتب التي نزلت على الانبياء السابقين ، ذلك لأن تلك الكتب – الغير محرفة منها – فيها اجزاء من الحق – وليس كله – ، فلذلك القرآن يصدقها جميعاً وهو المهيمن عليها في نفس الوقت.
{ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبيرٌ بَصير}
ان الله خبيرٌ بصير بعباده ، حتى وساوس النفس وخواطر القلب ، وكل تلك الامور اودعها في الكتاب المجيد.
الامة والقرآن
ولكن اين هي الامة من تعاليم القرآن ؟
اوليس القرآن فيه تبيانٌ لكل شيء ، وهو الحق ومن عند الحق ؟ اليس هو الكتاب الذي لا ريب فيه ، وفيه هدىً للمتقين ؟ فلماذا تعيش الامة في حضيض الجهل والفقر الثقافي ، حتى اضطر مثقفوها استجداء افكارهم وثقافاتهم من هنا وهناك ؟ اوليس في القرآن ما يقوم سلوك الفرد والمجتمع؟
ان الكثير من سور القرآن الكريم ترسم لقارئ القرآن طريق الاستفادة منه ، ففي سورة البقرة مثلاً نجد قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ هُدىً لِلْمُتَّقين)[1]، وسورة ال عمران تبدأ الحديث عن القرآن وطريق الانتفاع باياته المحكمة .. وهكذا سائر السور الكريمة ، فلماذا لا نجد تقدماً في هذا المجال؟
ان الله سبحانه وتعالى رسم للناس طريق نجاتهم ، كما ارسل اليهم من يؤكد لهم ان ذا هو الصحيح وغيره باطل ، الا ان الانبياء والرسل تبعاً لسنة الله في الخليقة لم يكرهوا احداً على سلوك طريق الحق ، وهكذا فان الله لا يكره احداً على ان يستفيد من القرآن ، بل اعطى للناس الحرية ، فمن اراد ان يفتح نافذة قلبه على اياته فهو المنتفع والا فلا خاسر غيره.
ولنا ان نعيد التساؤل بصيغة اخرى : ما هو طريق الانتفاع بالقران الكريم؟
ان الطريق الاساس للوصول الى القرآن الكريم ، هوطريق التدبر في اياته ، ذلك لأن التدبر يعد جسراً رابطاً بين كتاب الله عزوجل وبين العقل البشري.
فأول ما خلق الله سبحانه ، كان نور العقل ، حين قال له اقبل فاقبل وقال ادبر فادبر ، ثم مدحه بمديحٍ كبير حتى صار هو المتسحق للثواب والعقاب ، ومن بعد ذلك صير النور ذلك الى قسمين ، احدهما صار في الكتب السماوية ، والاخر اودعه البشر ، كلٌ بقدره.
وحين يتصل نور الكتاب بنور العقل ، يتكامل الانسان ، ويتفتح عقله ، الم يقل الله سبحانه : (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ )[2] . والانبياء عليهم السلام ايضاً بدورهم يثيرون دفائن العقل البشري لتنكشف له الحقائق.
ومن هنا ؛ فان العقل الداخلي يتصل بالعقل الخارجي ( النبي و كتابه القرآن ) بالتدبر ، فالتدبر جسرٌ بينهما ، وحينها يكون مثله كمثل الداخل في المدينة الكبيرة لأول مرة ، حيث انه لن يتعرف على شوارعها ، الا اذا اخذ خريطة المدينة ، وتأملها ملياً ، ومن ثم طبّق المرسوم على الورق على الشوارع الخارجية ، وحينها سيتعرف على المدينة وشوراعها بيسر وسهولة ، وهكذا فإن الله سبحانه وتعالى قد اودع في كل واحد منا ، المعارف الكثيرة ، من التوحيد والعدل و… ( وهي الفطرة الالهية ) فحينما يربط المرء تلك التعاليم الفطرية بتعاليم القرآن الكريم ، تكتمل لديه الصورة وتنكشف له الحقيقة بما لا دخل للشك والريب فيه.
شروط التدبر
ولكتاب الله تعالى كلمة سر ( شفرة ) ، فلا يتسنى لأيٍ كان الدخول والولوج فيه ، فيرى الكنوز ، مثل الاجهزة الالكترونية ، حيث لا يمكن لمن لا يملك كلمة السر الولوج في معلوماته ، ومن هنا فان من لا يملك كلمة سر القرآن ، وطريق الدخول فيه ،فلن يستفيد من اياته ، كما فعل الغربيون ، من دراسة الكتاب العظيم ، بل قد يكون الاثر عكسياً ، فتكون الايات مضرةً على الانسان ،كما قال تعالى : (وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنينَ وَ لا يَزيدُ الظَّالِمينَ إِلاَّ خَسارا)[3].
وللانتفاع بكتاب الله عزوجل لابد ان يتحلّى المتدبر بشرطين اساسيين :
الاول: الايمان التام والتسليم المطلق لعدل القرآن الكريم ، وهم اهل البيت عليهم افضل الصلاة والسلام الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه واله : (ِ إِنِّيتَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي كِتَابَ اللَّهِ وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي وَ إِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا)[4].
فمن لم يتولى علياً وابناءه الطاهرين عليهم السلام ، فإنه لن يقدر على فهم القرآن الكريم بصورة صحيحة ، حتى لو اراد وسعى من اجل ذلك سعيه. فحينما يرفض الانسان الايمان بالحق الجلي المتمثل في العترة الطاهرة عليهم السلام ، فانه يرفض الحقائق الاخرى من باب أولى ، فيعمى او يتعامى عن رؤية الحق.
والولاية تعني التسليم التام والمطلق لاوامر الائمة ونواهيهم ، فلا يدخله الشك في قلبه من حديثهم ، حتى وان لم يعِ الحكمة والعلة في قولهم ، لأنهم ائمة فرضت طاعتهم على العباد ، فقد قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصادق عليه السلام : ( يُقْتَلُ حَفَدَتِي بِأَرْضِ خُرَاسَانَ فِي مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا طُوسُ مَنْ زَارَهُ إِلَيْهَا عَارِفاً بِحَقِّهِأَخَذْتُهُ بِيَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ أَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ وَ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ وَ مَا عِرْفَانُ حَقِّهِ قَالَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِمَامٌ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ غَرِيبٌ شَهِيد..)[5] ، فكل ما قاله الامام فقد قاله رسول الله وهو امر الله عزوجل ، قال تعالى : (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّه)[6].
الثاني: التسليم المطلق لكتاب الله ، فيكون المرء مسلّماً لما في القرآن من حقائق ، حتى لو كانت مخالفة لمسبقاته الفكرية ، وادلته العقلية.
وما اكثر من خالف ايات القرآن بزعم انها تخالف العلم والعقل ، وتبين بعد حين انه كان المخطئ والجاهل بجهل مركب ، وكانت ايات القرآن على الصواب.
فالتسليم يعني ان يجلس المرء امام الكتاب دون ان يحمل اية مسبقات فكرية ، وكما قال احد العلماء : لا ينبغي لمن يجلس على مائدة القرآن ان يحمل معه طعامه الخاص ، بل لابد ان يذهب خالي اليدين لينتهل من القرآن كل خير.
وبعد توفر هذين الشرطين ، تبقى بعض الجزئيات التي لابد للمرء ان يلحظها ، بأن يختار المرء افضل اوقاته في اليوم لتلاوة القرآن والتدبر في اياته ، لا ان يكون القرآن مالئاً لاوقات الفراغ.
تنزيل: [نشرة البصائر الرمضانية، العدد: 21]