Search Website

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس: 22

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس: 22

وراثة الكتاب و منازل الناس منه

بسم الله الرحمن الرحيم

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبيرُ (32)

 وراثة الكتاب و منازل الناس منه

في الاية الكريمة  محاور متعددة ، كان محل اختلاف بين المفسرين ولكي تكون لدينا بعض الاستفادات الواقعية من الآيات ، نذكر بعض البصائر المستفادة من الاية المباركة:

البصيرة الاولى: من الواضح ان الله سبحانه و تعالى لا يرزق العلم لأي ٍكان ، و ان الكتاب  الذي هو الحق ، فيه العلم ، فكتاب الله الذي يكون ميزاناً لكل الحقائق، الذي هو تبيانٌ لكل شيء واصل لكل المعارف والحقائق ، هذا الكتاب لا يحصل عليه كل انسان ، بمجرد محاولته فهم الكتاب والاخذ منه.

والله سبحانه وتعالى لم يستجب دعاء النبي ابراهيم عليه السلام حينما سأل ربه عن الامامة في ذريته حيث قال تعالى : { وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتي‏ قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمين‏}[1] .

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا}

ان الله يصطفي لكتابه عباداً ، يختارهم لهذا الموروث العظيم ، فيورث الرب عزوجل عباده المصطفين كتابه الذي فيه هدى للعالمين.

البصيرة الثانية:

لكل شخص مستو ى معين، من حيث العلم والعقل والايمان ،  و  يُحاسب كل امرءٍ حسب درجته التي يحملها،  و كما ذكرنا في البحوث السابقة  الحديث الوارد عن ابي عبد الله عليه السلام: ” يَا حَفْصُ! إِنَّهُ يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ‏ سَبْعُونَ ذَنْباً- قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِلْعَالِمِ ذَنْبٌ وَاحِد”[2].

نعم ، في مقابل ذلك الحساب العسير ، درجات العالم عالية ، فمداده – مثلاً – افضل من دماء  غيره  من الناس ، و نومه افضل من عبادة غيره ، وهكذا فان المرء كلما ازداد علماً ووعياً وايماناً ازداد فضله من جهة ، وعسر حسابه من جهة اخرى ،  وهذا الذي يجعل الانبياء عليهم السلام يصابون بابتلاءات اشد من غيرهم ، ذلك لأن مستوى ايمانهم وعلمهم ارفع من غيرهم ، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه واله : “نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً وَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَمْثَلُ‏ فَالْأَمْثَل‏)”[3].

ويبدو ان السبب في ابتلاء الانبياء والرسل بمزيد من البلاء ، لاخراج فكرة كونهم الهة او اشباه الهة ، فابتلاء الرب نبيه بتركه للاولى ، فيه مزيدٌ للرفعة له عند الله سبحانه ، مع ابقاءه على حالة البشرية لديه ، وهكذا اتباع الانبياء من الصديقين ، الامثل فالامثل، ففي الحديث ان الامام الصادق عليه السلام قال لاحد اصحابه : (.. إِنَّ الْحَسَنَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ حَسَنٌ وَ إِنَّهُ مِنْكَ‏ أَحْسَنُ‏ لِمَكَانِكَ‏ مِنَّا وَ إِنَّ الْقَبِيحَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ قَبِيحٌ وَ إِنَّهُ مِنْكَ أَقْبَح‏)[4].

فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبيرُ}

وفي الاية  تأكيد على حقيقة تدرج الناس في المقام ، فهنالك ثلاثة اصناف من الناس ، فلا يجوز أن يقارن الانسان نفسه بالاخرين ، فربما يكون في درجته ظالم لنفسه و هو الأول ، باعتباره يترك الأولى فيصبح ظالماً ولكنه من اهل الجنة لعلو درجته ، ذلك لأن حسنات الابرار سيئات المقربين ، فمن يستطع ان يعمل عملاً صالحاً لا يجوز ان يتركه ليعمل ما يستطيع الادنى درجة منه  ان يفعله ، اما الاخر هو الذي يكون مقتصداً مراعياً للأولى  ، مطيعاً لله فيما امر ونهى.

و اما الثالث و هو الذي يكون سابقاً للخيرات فكل هؤلاء يدخلون الجنة و لكن لكل منهم اجر  ومنزلة ، حسب عملهم ودرجتهم.

البصيرة الثالثة: لا يمكن ان نجعل جميع ابناء المجتمع الواحد في خانة واحدة ومنزلة واحدة ، لكونهم جميعاً اشتركوا في الايمان بالله ، فالامة الواحدة فيها المؤمن الذي بلغ المراتب العليا من الايمان كسلمان وابي ذر ، ومنهم من ليس له نصيب من الايمان الا بقدر الاسم والهوية.

فقد روي عن أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين، قال إني لجالس عنده إذ جاءه رجلان من أهل العراق فقالا: يا ابن رسول الله جئناك [كي‏] تخبرنا عن آيات من القرآن. فقال: و ما هي ؟

قالا: قول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا فقال: يا أهل العراق و أيش  يقولون ؟

قالا: يقولون: إنها نزلت في أمة محمد صلى الله عليه واله.

 فقال: علي بن الحسين: أمة محمد كلهم إذا في الجنة!! [5]

قال: فقلت من بين القوم: يا ابن رسول الله فيمن نزلت فقال: نزلت و الله فينا أهل البيت ثلاث مرات قلت:

أخبرنا من فيكم الظالم لنفسه  قال: الذي استوت حسناته و سيئاته و هو في الجنة فقلت: و المقتصد قال: العابد لله في بيته حتى يأتيه اليقين، فقلت: السابق بالخيرات قال: من شهر سيفه و دعا إلى سبيل ربه.[6]

وفي نصٍ اخر بيانٌ بأن الاية كلها في اهل البيت عليهم السلام ، فعن  أبي هاشم، عن أبي محمد العسكري (عليه السلام)، و قد سأله عن قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ.

قال (عليه السلام): «كلهم من آل محمد (صلى الله عليه و آله)، و الظالم لنفسه: الذي لا يقر بالإمام، و المقتصد: العارف بالإمام، و السابق بالخيرات: الإمام.[7]

وهكذا تمنع النصوص اياً كان ان يبدي رأيه في الاية ويدلي بدلوه ، ذلك لأن الاية فيها من العلم ما لم يؤته الكثير من الناس ،  ومن هنا ؛ لزم على من اراد سلوك سبيل الحق ان يتمسك بعروتهم عليهم افضل الصلاة والسلام.


[1] البقرة : 124

[2] تفسير القمي : ج2 ، ص 146

[3] مصباح الشريعة : 183

[4] مناقب ال ابي طالب: ج4 ، ص 263

[5]  اي لو كانت نزلت في امة النبي صلى الله عليه واله كلهم ، لكانوا كلهم اهل الجنة ، والحال انهم ليسوا كذلك.

[6] شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، ج‏2، ص: 156

[7] البرهان في تفسير القرآن: ج3، ص 556