Search Website

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطرة الدرس: 25

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطرة الدرس: 25

 بسم الله الرحمن الرحيم

 {قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُوني‏ ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَليماً غَفُوراً (41)}

 من هو الانسان ؟ وما هي حقيقة وجوده؟

الحرية عنوان الانسان

اختلفت تعاريف البشر للانسان ، باختلاف النظرة اليه ، فمنهم من عرفه قائلاً ( الانسان حيوانٌ ناطق ) فهو كسائر الحيوانات ، الا انه يمتاز بالنطق والعقل ، وقال البعض في تعريف الانسان انه ( كائن مدنيٌ بالطبع ) نظراً لعدم امكان العيش منفرداً في الصحراء ، واعترف البعض بعجزه عن معرفة الانسان فاطلق عبارته ( الانسان ذلك المجهول).

وحسبما يستفاد من  الايات القرآنية والنصوص المباركة ، فإن الانسان هو كائن حر ، قبل ان يكون اي شيء اخر ، شرفه الله تعالى بالكرامة ، التي هي اعلى واغلى واسمى من اي شيء اخر.

وكانت الامانة التي حملها الله الانسان في عالم الذر ، هي امانة حرية الارادة والمشيئة ، ففي الحديث القدسي،  قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ : (يَا بَنِي آدَمَ بِمَشِيئَتِي كُنْتَ‏ أَنْتَ‏ الَّذِي‏ تَشَاء)[1].

فقيمة المرء تكون بقدر حريته وكرامته ، زيادةً ونقصاناً ، وحينما تكتمل تلك الحرية في المرء يكون الانسان الكامل ، الذي يعبد الله عزوجل بعبادة الاحرار ، ويتعامل مع الدنيا تعاملاً لائقاً بمقامها الداني ، ففي الحديث الشريف عن امير المؤمنين عليه السلام : (مَا عَبَدْتُكَ خَوْفاً مِنْ نَارِكَ وَ لَا شَوْقاً إِلَى جَنَّتِكَ وَ لَكِنْ رَأَيْتُكَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ فَعَبَدْتُك‏)[2] ، فليست عبادة امير المؤمنين لطلب جنة او ابتعاد عن نار ، لأنه تحرر في مقام العبودية عن كل شيء ، وعبد الله وحده لأنه اهل للعبادة ، وهكذا قال ابو الاحرار ، الامام الحسين عليه السلام : (إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ وَ إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ‏ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ وَ إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ وَ هِيَ أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ).[3]

وبهذه الرؤية العالية ، يتنعم الانبياء والاوصياء بالقرب من الله عزوجل ، وتصير تلك اعظم نعمة يجليهم بها الرب تبارك وتعالى ، يقول الامام زين العابدين عليه السلام في مناجاته المسماة بمناجاة المريدين : (َ لَا تَقْطَعْنِي عَنْكَ وَ لَا تُبْعِدْنِي مِنْكَ يَا نَعِيمِي‏ وَ جَنَّتِي‏ وَ يَا دُنْيَايَ وَ آخِرَتِي‏)[4].

وهكذا تكون القمة التي يتطلع اليها المؤمن ، هي التي يعيشها الانبياء والاوصياء ، ولكن في سبيل ذلك فانه بحاجة الى تحطيم مئات القيود التي تحجبه عن فضاء الحرية والكرامة ، فمن لا يقدر على غض طرفه عن نظرة محرمة ، فانه عبدٌ لشهوته هذه ، ومن لا يتمكن من الامتناع عن مال سائغ محرم ، فانه لا يزال بعيد عن الحرية المنشودة ، كما ان من يعبد الجبت والطاغوت ويطيعهما ليس بالحر ابداً.

وتهدف الايات الختامية من سورة فاطر ، ان تحرر المرء من هذه القيود ، التي هي قيود الشرك بالله سبحانه وتعالى ، من خلال بيان ان الشرك لا يكون الا بعد توفر دواعيه الداخلية.

فمن يعبد الصنم ، انما يعبده لوجود عقدة الصنم في داخله اولاً ، تدعه يعبد الصنم الواقعي، ذلك لأنه لم يتحسس التحرر في شخصيته ، وهكذا يتحول الصنم الخارجي سبيلاً لاستعباد والاستخفاف بعقول الناس ، لوجود انواع من الالهة في دواخل كل واحد تشترك في انها بعيدة عن الايمان بالله واطاعة رسله ومن امر باتباعهم.

الا ترى ، كيف يأمر نمرود قومه ، بان يحرّقوا النبي ابراهيم عليه السلام ، وينصروا تلك الالهة المهدمة ؟ ذلك لأن نمرود كان قد استعبد القوم بحجة الاصنام ، وحينما تهدمت ، فإن في ذلك كان خراباً لعرش ملكه وسلطانه.

وفي الحقيقة ، فإن التاريخ لم يشهد استعباداً للبشرية ، اشد واعتى ، من استعباد الناس باسم الدين ، بعد تحريف تعاليمه وتشويه معالمه ، ذلك لأن العقيدة هي اقوى قوة اودعها الله سبحانه قلب الانسان من اجل حريته وكرامته ، وتحريفها يجر الانسان الى المآسي والويلات ، حتى ان الانحراف يبلغ ان يقاتل صاحب الدين باسم الدين ، كما حصل ذلك في كربلاء حيث ازدلف الى قتل الامام الحسين عليه السلام ثلاثون الفاً ، كلٌ يتقرب الى الله عزوجل بدم الامام الشهيد سلام الله عليه.

وهكذا ؛ فلا يكتمل ايمان امرءٍ الا بعد التخلص من طاعة كل من لم يأمر الله بطاعته ، حتى لو كان يظهر انه مدافع عن الدين ، بل يجعل اتباعه وطاعته محصورةً فيمن امر الله باتباعهم ، من الانبياء والاوصياء والعلماء الربانيين السائرين على خطى الرسالات الالهية.

اما من اطاع غير هؤلاء ، فانه مشرك ، لأن الشرك هو ان يدين الله بشيء لم يأمر به الله سبحانه ، فقد قال الامام الباقر عليه السلام : (أَدْنَى‏ الشِّرْكِ‏ أَنْ يَبْتَدِعَ الرَّجُلُ رَأْياً فَيُحِبَّ عَلَيْهِ وَ يُبْغِضَ عَلَيْهِ)[5].

ومن اجل الا يتمسك الناس بادعاءات كاذبة ، فقد زود الله رسله بالبينات والمعاجز ، الدالة على صدق رسالتهم ، دون غيرهم من المدعين.

وليس الحديث عن محاربة الشرك ، وعبادة العبيد ، امراً منحصراً بالتاريخ ، بل هو حديثٌ ساري في كل الاعصار والامصار ، لأن الشرك واحد رغم تغير معالمه واشكاله.

{ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُوني‏ ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْهُ }

فالشركاء المزعومين من دون الله لابد ان يتصفوا باحدى الصفتين :

أ‌-      اما ان تكون لهم القدرة والهمينة ، فيخلقوا شيئاً من الارض او في السماء.

ب‌- واما ان يكونوا مرسلين من قبل الله  عزوجل ، فيطاعوا باذن الله.

والحال خلو الشركاء المزعومين ، من الصفتين ، فلا تبقى حجة للمشرك باطاعتهم.

بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً}

ان المشكلة ليست في الشركاء ، بل هي في الظلمة انفسهم ، فهم يعدون بعضهم بعضاً غروراً.

ومن جوانب التغرير ، هو ان الظالم المستكبر يخدع من هم دونه بادعاته الباطلة ، ومن دونه يخدعونه بتصديقه فيما يقول وتعظيمه ونسبة ما ليس فيه اليه ، كما هو حال الطغاة ، ومن حولهم من الحواشي المتزلفة.

السماوات والارض

إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَليماً غَفُوراً}

ان امساك الله للسماوات والارض ، قد يتصور من جهتين :

الاولى : ان الخليقة كلها قائمة بالله عزوجل  ، ويفيض الرب عليها بنور الوجود كل آن ، ولو قطع الفيض ذلك ، تحولت من وجود الى عدم.

الثانية: ان الانظمة المهيمنة على السماوات والارض ، والفضاءات الخارجية ( مواقع النجوم ) و.. كلها بحاجة الى مدبر حكيم و محرّك خبير ، فلا يمكن للكواكب ان تبقى من دون تدبير.

الا ترى كيف ان هذه الاجرام العظيمة ، السائرة في الفضاء بسرعة هائلة ، وبتحركات مختلفة ، لا تنحرف عن مسارها قيد انملة ، اثر الجاذبيات المختلفة الحاكمة عليها ، فللمشس – مثلاً – جاذبيتان ، احداهما جاذبة ، تمنع الكواكب  السابحة حولها من الابتعاد والخروج عن المدار ، والاخرى دافعة ، تدفع نفس الكواكب من الاقتراب اكثر من الحد المرسوم.

وفي هذه الفضاءات تسبح ملايين الاجرام ، باحجام مختلفة ، من دون مدارات واضحة ، ( لانها قد تكون بقايا نجوم تفجرت وتلاشت) ، وبعض هذه الاجرام كبيرة جداً ، تبلغ حجمها الجبال الضخمة ، ولو اصطدم واحداً من تلك الاجرام بالأرض ، لانتهت الحياة فيها ، ولكن الله سبحانه قد جعل لكوكب من الكواكب جاذبية قوية ، تسحب تلك الاجرام وتفجرها فيه وهو المشتري.

فمجرد ان يرفع عنها تدبير الله عزوجل ، تصطدم ببعضها البعض وتتلاشى ، وان غير الله عاجزاً عن القيام بهذا الامر ، فكيف يكون مستحقاً للعبادة والطاعة والخضوع؟

ولو تأمل المرء السماء فوق رأسه ، لوجدها سقفاً مرفوعاً ، لا من حديد او نحاس او صفر ، بل سقفاً من غازات مختلفة ، تمنع الاجرام والنيازك الضارة من الدخول الى الارض ، او على الاقل تقلل من اضرارها واحجامها.

وان اراد الله ازالة السماوات والارض في لحظة ما – كيوم القيامة مثلاً- فلن يقدر احدٌ على ان يمسكها ابداً.

ان المزيد من التأمل في هذه الكواكب والمجرات والسماوات ، والارض ، يحرر الانسان من الالهة المزيفة ، ويجعله امام الرب الرحيم الغفار، فيزداد ايماناً بربه ، حتى يكون عبداً له دون غيره من خلقه ، ويصير حاله كما في الحديث الشريف عن امير المؤمنين عليه السلام : ( عَظُمَ‏ الْخَالِقُ‏ فِي‏ أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِم‏)[6]

 تنزيل: [نشرة البصائر الرمضانية العدد:25]


[1]  الفقه المنسوب الى الامام الرضا عليه السلام : ص 349

[2] نهج الحق ، وكشف الصدق : ص 248

[3] تحف العقول : ص 246

[4] بحار الانوار: ج 91، ص 148.

[5]  بحار الانوار: ج2 ، ص 304

[6]  تحف العقول : ص 159