Search Website

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس: 26

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس: 26

 بسم الله الرحمن الرحيم

 

{وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى‏ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42)اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَ مَكْرَ السَّيِّئِ وَ لا يَحيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْديلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْويلاً (43)}

تبريرات المشرك

تحدثت الايات الاولى في السورة عن طرق اقتلاع جذور الشرك من قلب الانسان ، عبر بيان اسبابها ، اذ ان الشرك يعد جذر كل فساد وضلال لدى البشر.

ان الايمان بالله سبحانه و بوحدانيته ، امر يحدث في اعماق غيب الانسان من خلال غلبة جانب الحق على جانب الباطل، حيث يتم عقد القلب – الذي لا يظهر عليه الا الله – بالايمان ، و الاخلاق  الحسنة من اسمى قيم التوحيد ، و تظهر من خلال العمل الصالح ، وكل هذه ( العقيدة و الاخلاق والعمل ) تتناقض والشرك بالله ، فاذا تغلب جانب الشرك والانحراف و (الهوى) على جانب الحق والايمان و ( الهدى ) ، فإن الايمان يُستبدل بالنفاق ، والاخلاق الحسنة تتحول الى فواحش داخلية ، والعمل الصالح يتبدل الى الفواحش الظاهرية.

وفي هذه الاية ، حديثٌ عن الاعذار والتبريرات التي يقدمها المشرك بالله ، ويجعلها عللاً لبقاءه على الكفر والضلال ، بغية التهرب من المسؤولية ، و لكن تلك الاعذار لا ترقى لتخلص الانسان من امانة المسؤولية في الدنيا ، واليم العذاب في الاخرة ، و الاعذار هي :

الأول: التسويف

{وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى‏ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ }

يتمنى الجميع القيام بافعال الخير ، لكن ليس الان ، بل يدع ذلك للمستقبل ، فيسوف الاعمال الصالحة ، وبهذا التسويف يخدع الانسان نفسه ويمنيها كذباً بالعمل الصالح مستقبلاً.

ان مهلة الاجل ليست بالطويلة ، ولا يضمن امرءٌ بقاءاً ليعمل الصالحات في يومٍ ما ، ومن هنا ؛ فان الاماني هذه ، ليست الا محاولة لخداع النفس ، فقد  رُوِيَ‏ أَنَّ النبي صلى الله عليه واله ،  أَخَذَ ثَلَاثَةَ أَعْوَادٍ فَغَرَسَ عُوداً بَيْنَ يَدَيْهِ وَ الْآخَرَ إِلَى جَنْبِهِ وَ أَمَّا الثَّالِثُ فَأَبْعَدَهُ وَ قَالَ : هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا ؟

قَالُوا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَعْلَمُ .

قَالَ : هَذَا الْإِنْسَانُ وَ هَذَا الْأَجَلُ وَ هَذَا الْأَمَلُ يَتَعَاطَاهُ ابْنُ آدَمَ وَ يَخْتَلِجُهُ الْأَجَلُ دُونَ الْأَمَل‏.

يموت الكافر وهو يمنّي نفسه فعل الخير ، فيدخل نار جهنم ، فيصطرخ فيها مطالباً العودة ليقوم بعمل صالح دون جدوى ، قال تعالى : (وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذي كُنَّا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فيهِ مَنْ تَذَكَّرَ )[1] ، وهكذا يكون (أكثر أهل النار صياحهم من سوف يقولون وا حزناه من سوف‏)[2] .

فلا ينبغي لصاحب حجى ان يطيل الامال ويؤجل الاعمال ، بل عليه ان يشتغل في كل آنٍ من عمره بالعمل والعطاء في طريق الخير والصلاح ، ففي الحديث عن امير المؤمنين عليه السلام : إنّ عمرك وقتك الّذي أنت فيه ما فات مضى و ما سيأتيك فأين قم فاغتنم الفرصة بين‏ العدمين‏)[3].

ان الاية تحدثنا عن الكفّار ، حيث كانوا يتذرعون – في تبرير كفرهم – بعدم وجود نذيرٍ لهم – كأعراب- ، ويمنّون انفسهم بمجيء نبيٍ عربيٍ يتبعوه ، فيكونوا خيراً من احدى الامم ( بني اسرائيل ) او سائر الامم.

ولاثبات هذا الادعاء الكاذب ، والامنية المخادعة ، راحوا يقسمون باغلظ الايمان ، ومختلف الالفاظ ، ولكن لم تكن النتيجة كما ادعوا.

فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً}

فلم يؤمنوا بنبيٍ ارسله الله اليهم ، لينذرهم ، ويخرجهم من الظلمات الى النور ، بل ازدادوا فراراً وهرباً من الهدى والايمان.

وتنطبق الاية على كل من يقوم بتسويف القيام بالاعمال الصالحة ، ويتهرب من الناصحين والداعين الى المعروف والخير.

الثاني: الاستكبار

اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ }

في داخل البشر رغبة جامحة في التفوق على الاخرين ، سواء كان تفوقاً بشأن لقمةٍ بسيطة ، او دولة كبيرة ، فليس المهم ما يتفوق فيه ، بل المهم عنده ان يكون أربى واعلى من غيره.

وحينما نرى ان رؤساء بعض الدول ، يقومون بمهاجمة هذه الدولة او تلك ، انما ذلك بسبب تلك الرغبة الداخلية.

وبالامكان الانتفاع من هذه الرغبة في مجال الخير ، في التنافس المطلوب ، حيث يقول تعالى : (خِتامُهُ مِسْكٌ وَ في‏ ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُون‏)[4]، فيكون مؤمناً حقيقياً يبحث عن الجنة ، فيكون كما قال النبي صلى الله عليه واله : (قَلِيلَ الْمَئُونَةِ كَثِيرَ الْمَعُونَة)[5]، فلا يستعلي على غيره ، ولا يوقع غيره في المشقة والتعب ، بل بالعكس تماماً ،يبحث دائماً عن اعانة الاخرين.

الا ان المشكلة تكمن في ان الكثير من الناس يحولون هذه الرغبة التي زرعت فيهم لطلب العلى في الاخرة ، يحولونها الى سبب المزيد من التناحر من اجل الدنيا والتصارع عليها.

اول معصية ارتكبت في هذه الدنيا ، كانت بسبب الاستكبار، حيث رفض ابليس السجود لادم عليه السلام ، وبعد ذلك ايضاً كانت المعارك جميعاً تصب في خانة ( حب الاستعلاء والتفوق) ، حيث قتل قابيل هابيلَ حسداً على امر الخلافة ، والى يومنا هذا.

وهكذا ؛ تستمر حالة طلب العلو ، بأي طريقة كانت ، لدى الفرد ، حتى توصله الى الاستكبار على مستوى الارض كلها ، فلا يكتفي بالتكبر في بيته على اهله ، او على من يقطن في جواره ، بل يبحث عن التكبر في كل الكرة الارضية.

الثالث: المكر السيء

وَ مَكْرَ السَّيِّئِ وَ لا يَحيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ }

ان لكل غاية سبيلاً واضحاً ، قد يطول وقد يقصر ، فلابد من سلوك السبيل المحدد للوصول الى تلك الغاية ، ومن اراد ان يصل الى تلك الغاية عن الطرق الملتوية او الغير صحيحة ، فانه مخادع وماكر ، وسوف يكون مصيره الهلاك.

فالزواج – مثلاً – الطريق الصحيح والمرسوم لاشباع الشهوة الجنسية العارمة لدى الشاب ، فمن احجم عنها وحاول اشباعها بالطرق الغير سليمة – بحجة قصرها – كالزنا والشذوذ ، فانه ضالٌ عن الطريق ومتنكبٌ عن السبيل ، ويسير مسيرة الهلاك والدمار ، قال تعالى : (وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبيلا)[6].

ففي كل امور الحياة ، رسم لنا الشرع المقدس طرقاً سليمة و صحيحة ، للوصول اليها ، عبر بيان الفرائض و السنن والاداب ، فمن يحاول تجاوزها والتحايل عليها ، سيكون هو الخاسر .

و لفظة ( يحيق ) من ( حاقَ) بمعنى احاط بالشيء ، فالمكر السيء سيحيط باهله ، دون غيرهم.

سنن الله في الخلق

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْديلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْويلاً}

ان اللبيب من اتعض بتجارب غيره ، اذ ليس للمرء اكثر من عمر واحد يجرب في واحد منها ويستفيد من التجارب في الثاني ، بل لابد عليه ان يتعض باخبار الماضين ، وينتفع بتجاربهم ، ليكون ممن نجى من الهلكة ، فقد قال الامام امير المؤمنين عليه السلام لولده الحسن المجتبى عليه السلام : (أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وَ إِنْ لَمْ‏ أَكُنْ‏ عُمِّرْتُ‏ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَ فَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ وَ سِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ وَ نَفْعَهُ مِنْ ضَرِّه‏)[7].

فمن يشرك بالله ، ويتشبتث بالآماني الكاذبة ، او التكبر على الحق ، او المكر السيء ، فلن يكون مصيره خيراً من مصير المشركين من قبل ، ذلك لأن سنة الله سبحانه واحدة في الاولين والاخرين.

وهكذا تتسائل الاية من هؤلاء ، (فهل ينظرون ) والنظر هنا بمعنى الاعتبار ، فيكون المراد ، هل ينتظرون ما جرى على الاولين من قبلهم؟

ان سنن الله التي اجراها في خليقته ، لن تتبدل او تتحول ، منذ ان انزل ادماً عليه السلام الى الارض والى قيام الساعة.

ويبدو ان التبدل يعني ، التغير التام ، وهذا لا يكون ، فكما ان الجاذبية تبقى جاذبة للاجرام المختلفة ، كذلك سائر السنن الالهية تبقى مهيمنة على هذه الخليقة ، وكذلك لا تحول في السنن ، بأن لا تنطبق على البعض استثناءاً ، فالظلم يستدعي سوء العاقبة ، فلا فرق بين ان يكون الظالم عربياً او اعجمياً ، وهكذا فيكون معنى التبدل هو التبدل التام ، والتحول ، هو وجود استثناءات في التطبيق او تدرجات فيه، والله العالم.

تنزيل: [نشرة البصائر الرمضانية العدد: 26]


[1]  فاطر : 37

[2]  مجموعة ورام : ج1 ، 276

[3]  غرر الحكم : ص 222

[4]  المطففين : 26

[5]  التمحيص : 74

[6] الاسراء: 32

[7] تحف العقول : ص 70