Search Website

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس 27

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس 27

بسم الله الرحمن الرحيم

{أَ وَ لَمْ يَسيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَليماً قَديراً (44)}

 الماضي ضياء المستقبل

ما هي العلاقة بين التاريخ، والحال، والمستقبل؟ و كيف للمرء ان يتخذ من التاريخ ضياءاً ينير حاضره ومستقبله؟

العديد من الايات القرآنية تحدثنا عن التاريخ، قصصاً وعبراً، المرة تلو الاخرى، بذكر تاريخ سريع لكل حضارة وامة، كيف بدأت و سادت، ومن انحرفت فبادت.

واليوم حيث التطور العلمي في المجالات المختلفة، نجد ان الاطباء يبحثون عن تاريخ المريض منذ ولادته، كيف كانت، ما هي الامراض التي ابتلي بها؟ بل وتاريخ عائلته المرضي، للبحث عن جذور المرض، هل هو بسبب الجينات، او السلوكيات، او.. ومن بعد معرفة تفاصيل حياة المريض، يقدم الطبيب على وصف العلاج المناسب له، والا فقد يصف الطبيب دواءاً يعالج المرض المحدد، ولكنه يضر المريض من جهة اخرى، لوجود تحسس من مواد معينة في الدواء، او وجود اعضاء ضعيفة في الجسم تتضرر بالدواء و..

وهكذا في الهندسة، فمن اراد ان يضيف الى بيته طابقاً اخر، فإنه بحاجة الى معرفة اسس بناء منزله، هل تستحمل ثقل طابق اخر، ام ليست كذلك، فيكون دور المهندس البحث في تاريخ وجذر البناء هذا.

وكما في الامور المادية، كذلك فإن الامور المعنوية، تعتمد بشكل كبير على التاريخ، ففي الزواج مثلاً، نجد التعاليم الدينية تؤكد المرة بعد الاخرى، على البحث الدقيق في جذور المرأة المراد تزويجها، وتاريخها و عائلتها،  فقد ورد في الحديث عن الامام الصادق عليه السلام: (تَزَوَّجُوا فِي الْحُجْزِ الصَّالِحِ فَإِنَّ الْعِرْقَ‏ دَسَّاس‏)[1]، و َ قَالَ النَّبِيُّ الاكرم صلى الله عليه واله: (اخْتَارُوا لِنُطَفِكُمْ فَإِنَّ الْخَالَ‏ أَحَدُ الضَّجِيعَيْنِ‏)[2].

وكذلك؛ فان اخلاق المرء تتأثر بماضي حياته، فقد يعايش في صغره عقداً وحوادثاً تؤثر فيه طيلة حياته، ولا يرغب في ان يتذكرها، ولو برؤية الاماكن التي واجه فيها المشاكل، نجد مثلاً رجلاً كأبي ذر، الذي كان يعيش في قمة الايمان بالله، ومجابهة الباطل، حين اراد الخليفة الثاني ابعاده عن المدينة، سأله عن ابغض مكانٍ له، فقال: الربذة، وكان فيها مسقط رأسه، وموطنه الاصلي، الا انه كره ذلك المكان وابغضه، لأنه عاش هناك مشركاً بالله، عابداً للاصنام، فترةً من الزمان، فكره العود الى تلك المناطق التي تذكره بسالف ايامه التي يبغضها.

و تكره الصلاة في مكان اضرمت فيه نارٌ، لمن كان مجوسياً او في اباءه من هو كذلك، لاحتمال الحنين الى تلك الايام التي كان يعبد فيها الشمس قبل اسلامه.

فللتاريخ دورٌ كبير في سلوكيات الفرد، الحالية، والمستقبلية، بل وله تأثيرٌ ملحوظ على المجتمعات عموماً، فمن دخل في مجتمع يعيش اهلها حالة التبذير والاسراف منذ امدٍ، فعليه ان يحارب تلك الحالة لكيلا يبتلى بما ابتلوا به على مرور الايام.

فمعرفة التاريخ – سواءاً على الجانب الفردي او الاجتماعي – يزود الانسان بمناعة من الامراض والاخطار، فمن عرف خيانة المتأسلمين – في الظاهر- للدين الحنيف، من خلال الوضع والدس – مثل كعب الاحبار -، فانه يتحصن ضد امثاله.

اما الفائدة الاخرى، لمعرفة التاريخ، وطريق الاستنارة به للمستقبل، فهو ان التاريخ مبنيٌ على وفق سنن سنّها الله سبحانه في الخليقة، ولن تجد لها تبديلاً او تحويلاً، وتنطبق تلك السنن على الذرة والمجرة سواسية.

فالانسان الذي كان يعيش في العصر الحجري، هو نفسه الذي يعيش اليوم في عصر التقدم التقني، فحاجاته واحدة، وشهواته واحدة، وتطلعاته –كذلك واحدة-، ففي الحديث: (.. النَّاسُ إِلَى آدَمَ شَرَعٌ‏ سَوَاءٌ وَ آدَمُ مِنْ تُرَابٍ)[3]، فالجوهر واحد، رغم تغير المظاهر وتطورها، وقد قال الامام امير المؤمنين عليه السلام، للامام الحسن عليه السلام: (أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وَ إِنْ لَمْ‏ أَكُنْ‏ عُمِّرْتُ‏ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَ فَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ وَ سِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ وَ نَفْعَهُ مِنْ ضَرِّه‏)[4].

والدراسة الملية لاكتشاف هذه السنن، ومن ثم توفيق الحياة والسلوكيات وفقها، كفيلٌ بنجاح الانسان في حياته، والله سبحانه، قد اودع تلك السنن، وبيانها، وتوضيحها، في كتابه الكريم، من خلال ذكر قصص الماضين، ببيان جلّي وامثلة واضحة، لا لبس فيها، ومن هنا؛ نجد ان القرآن الكريم لا يحدثنا عن الافراد – عادة -، بل غالباً ما يكون الحديث عن الامم والمجتمعات الكبيرة، وعن الذنوب الجماعية، وعن الاخذ الالهي لهم قاطبة.

فحينما نقرأ قصص الاقوام والامم السالفة، كعادٍ وثمود واصحاب الايكة و.. لابد من الالتفات ان النتائج الواقعة عليهم ليست حصراً بهم، بسبب اسماءهم، انما كانت نتائج لافعالهم القبيحة، فعلينا ان نحذر من اعادة تلك التجارب.

ويبدو ان ذكر القصص، انما هو لبيان انواع الانحراف لدى البشرية، بسبب الابتعاد عن خط الايمان بالله، فمن ابتعد عن الايمان والعقيدة الصحيحة، سيكون امره فرطاً، وهكذا كانت الامم، فمرة ابتلوا بالكبر والاستعلاء، واخرى بالتكذيب والاستهزاء، وثالثة بالتطفيف والايذاء[5]، واخرى بالشذوذ والفحشاء و..

وكانت معاصيهم – على اختلافها وتنوعها – تشترك في تحدي الرب، والكفر به، والاتكال على انفسهم وما اوتوا،  فأخذهم الله بما كسبوا، وبما يتوافق مع جانب استعلاءهم وابتعادهم عن الله سبحانه.

فقوم فرعون، اغرقوا بنيلٍ كانوا يفخرون بها، حيث كان يقول كبيرهم دوما: (وَ نادى‏ فِرْعَوْنُ في‏ قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لي‏ مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْري مِنْ تَحْتي‏ أَ فَلا تُبْصِرُون‏)[6]، وكذلك كان اغراق قوم نوح لأنهم كانوا يفخرون بنهري الدجلة والفرات ويعتمدون عليها – دون الله سبحانه-.

واصحاب الأيكة (قوم النبي شعيب عليه السلام) فكان اعتمادهم في زراعتهم على الامطار، فيفرحون بمجيء السحب والغيوم، فعذبهم الله بعذاب يوم الظلّة ، وهم يظنون انها سحب خيرٍ وغيث، قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ريحٌ فيها عَذابٌ أَليم‏)[7].

وتجبر عاد وتكبروا، فاخذهم الله سبحانه من جهة ذلك الاستعلاء والتكبر، و… قال تعالى: (وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبيلِ وَ كانُوا مُسْتَبْصِرين‏* وَ قارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى‏ بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ما كانُوا سابِقين‏* فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون‏)[8]

وهكذا؛ فإن من اعتمد على غير الله سبحانه، فإن في ذلك الغير يكون هلاكه، فقد قال امير المؤمنين عليه السلام: (مَنِ اعْتَزَّ بِغَيْرِ اللَّهِ‏ أَهْلَكَهُ الْعِز)[9]، وقد قيل أن النبي يوسف عليه السلام، اغترّ يوماً باخوته، وافتخر بهم، لكونهم اشداء، يدافعون عنه في الشدائد، ولكنه القي في البئر بيد من افتخر بهم واعتز بهم.

ومن هنا؛ نجد ان النبي واهل بيته عليهم السلام، كانوا يعتمدون على ربهم، ويحذرون من ساعةٍ يكلهم الله الى انفسهم، فكانوا يكثرون من قولهم (الهي، لا تكلني الى نفسي طرفة عين ابداً)، فعنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع يَقُولُ‏ وَ هُوَ رَافِعٌ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ- رَبِّ لَا تَكِلْنِي‏ إِلَى‏ نَفْسِي‏ طَرْفَةَ عَيْنٍ أَبَداً لَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَ لَا أَكْثَرَ.

قَالَ فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ تَحَدَّرَ الدُّمُوعُ مِنْ جَوَانِبِ لِحْيَتِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ:  يَا ابْنَ أَبِي يَعْفُورٍ إِنَّ يُونُسَ بْنَ مَتَّى وَكَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَى نَفْسِهِ أَقَلَّ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ فَأَحْدَثَ ذَلِكَ الذَّنْبَ؟

 قُلْتُ: فَبَلَغَ بِهِ كُفْراً أَصْلَحَكَ اللَّهُ؟

قَالَ:لَا وَ لَكِنَّ الْمَوْتَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ هَلَاكٌ.

السير في اخبار الماضين واثارهم

 {أَ وَ لَمْ يَسيرُوا فِي الْأَرْضِ}

استفهامٌ يفهم منه الأمر بالسير في الارض، والنظر في اخبار الماضين واثارهم، للاعتبار بها، قال تعالى: (قُلْ سيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبين‏)[10].

{فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}

يبدو ان المراد من النظر هنا، امعانه، بمعنى التفكير والتبصر بما حدث لمن كان قبلهم، وكيفية ما حدث، واسباب ما حدث، كل ذلك للتعرف على سنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير.

{وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}

تكررت هذه العبارة في اكثر من آية، في بيان قوة الحضارات السابقة، التي كانت بالتأكيد اكثر تطوراً و تقدماً وقوة على من كانوا في الجزيرة العربية.

ان عاد،  عمروا الارض اكثر مما عمروها، و قوم فرعون بنوا اهراماً تعجز البشرية ان تبني اليوم مثلها، و حنطّوا موتاهم بطرق علمية متقدمة جداً.. كل ذلك كان تقدماً وقوة لم يملكها الكفار في الجزيرة العربية، بل ولا تملكها الكثير من الامم والمجتمعات اليوم.

{وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَليماً قَديراً}

ان التقدم، والتطور – في الجوانب العلمية والمدنية والعسكرية –  مهما بلغ من الكثرة، فإنه لن يقابل علم الله سبحانه وقدرته ، ولن يقدر على تحدي ارادة الرب، واعجازه عن امضاء ما يريد، سبحانه، بل هو القوي العزيز.

اليوم، حيث تفتخر الحضارة الغربية، بما تمتلك من تطور في الجوانب المختلفة، هل تتمكن من مقابلة ارادة الرب سبحانه وتعالى؟ كلا والف كلا، اولم يروا كيف ان حضارتهم باتت تشبه بيت العنكبوت، وان اوهن البيوت لبيتها؟

انهم – الغرب – افتخروا باقتصادهم، وتبحجوا به، فانهار اقتصادهم في ايام قلائل، فانهارت على اثره دولة تلو دولة.

وافتخروا بتقدمهم في العمران،وارادوا بذلك تحدي الرب،  الا ان الزلازل والانهيارات والسيول، بددت تلك الاحلام في اقل من طرفة عين.

إن الله عليمٌ بما يفعل الانسان، وما توسوس به نفسه، وهو القادر على اخذه متى شاء، وقد وردت لفظتي العليم والقدير بصيغة المبالغة (فعيل) للدلالة على احاطة علمه، ونفاذ امره.

 تنزيل: [نشرة البصائر الرمضانية، العدد:27]


[1] مكارم الاخلاق: ص 197

[2] الكافي: ج5، ص 332

[3]  الفقه المنسوب الى الامام الرضا، عليه السلام: ص 336

[4] تحف العقول: ص 70

[5] قوم شعيب، كانوا يطففون في الموازين، ويؤذون الناس المارة.

[6] الزخرف: 51

[7] الاحقاف: 24

[8] العنكبوت: 38-40

[9] تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص 478

[10] الانعام: 11