Search Website

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (فصلت) شهر رمضان المبارك / 1436 هـ – (الدرس الثاني)

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (فصلت) شهر رمضان المبارك / 1436 هـ – (الدرس الثاني)

تدبرات المرجع المدرسي في سورة فصلت (حم سجدة).
شهر رمضان المبارك / 1436

الدرس الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم

[حم(1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ (2)]

صدق الله العلي العظيم

[حم(1)]
ثمة بحوثٌ تطرق اليها المهتمون بالشأن القرآني عن الأحرف المقطعة التي تبتدء بها بعض السور، ومنها سورة فصلت المسماة في لسان الروايات “حم سجدة”، وعن معاني هذه الاحرف..
فقال بعضٌ بأن هذه الاحرف والكلمات المقطعة انما هي رموزٌ واسرار اودعها الله كتابه لخاصة اولياءه، فلا يطلع غيرهم عليها، وهذا الامر صحيح، ففي كل آيات القرآن الكريم جوانب خفيّة فيها اشارات واسرار ولا يعيها الا اولياء الله سبحانه، وربما كشف المعصومون، عليهم السلام، عن بعض الاسرار الخفية لبعض الآيات القرآنية – ومنها الايات المقطعة- فيصاب الانسان بذهولٍ أمام علمهم، عليهم السلام، فيذعن بكونهم حجج الله سبحانه واولياءه حقاً.
ورأيٌ ثانٍ بأن هذه الاحرف، انما هي بمثابة منبهّات تنبه قارئ القرآن، فبها يجلب الله سبحانه انتباه تالي الكتاب ليكون مستعداً لتلقي بصائره.
وثالث الآراء يقول، ان هذه الأحرف تعبّر عن القرآن ذاته، ودليل ذلك سياق الآيات، فقلمّا ترد الاحرف المقطعة الا ويكون الحديث بعدها مباشرة عن الكتاب المجيد، وكما في هذه السورة نرى ان الاية التالية لهذه الاية حديثٌ عن تنزيل القرآن من الرحمن الرحيم، وكأن “حم” مبتدأ وخبره “تنزيلٌ من الرحمن الرحيم”.
على أن الاحرف المقطعة في هذه السورة، ورد بها نصٌ خاص من المعصوم، عليه السلام، كشف عن بعض اسرارها ففي الحديث عن الامام الصّادق، عليه السّلام، في حديث طويل، يقول فيه:
” أمّا حم فمعناه: الحميد المجيد” .
وهكذا، تبدأ السورة بإسمين من اسماء الله الحسنى هما “الحميد والمجيد” ليكونا منطلقي مطالب السورة، وبعبارة اخرى، فان سورة فصلت وما فيها من آيات مباركة انما هي تجلّي لهذين الاسمين المباركين، كيف؟

الحميد المجيد
الحميد يعني المحمود، بأن الحمد كله له وأنه اهلٌ للشكر، وأن كل فعاله وصنعه حسن، نابعٌ من رحمته ولطفه.
وهو – سبحانه- في ذات الوقت “مجيد” ذات قدرة وهيبة وجبروت، لكيلا يغتر الانسان بجانب رحمة الله سبحانه فيتجاوز الحدود المرسومة له . ان الله رحيمٌ في موضعه وشديد العقاب في محله وكما نقرأ في دعاء الافتتاح:
“وَأَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَرْحَمُ‏ الرَّاحِمِينَ‏ فِي‏ مَوْضِعِ‏ الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ وَأَشَدُّ الْمُعَاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النَّكَالِ وَالنَّقِمَةِ وَأَعْظَمُ الْمُتَجَبِّرِينَ فِي مَوْضِعِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَة”.

[تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ(2)]

[ تنزيل]
حين نقرأ كلمات الكتاب عن تنزيله مثل كلمات (انزلناه –نزلنا- نزل – تنزيل)، قد يتبادر الى الاذهان ان معنى ان المقصود به انتقال القرآن من مكانٍ عال مرتفع – كالسماء الرابعة- الى الأرض.
والواقع ان العالم لا يوجد له علوٌ او دنو حقيقي، فما هو دانٍ بالنسبة الى ارضنا التي نعيش عليها يعد عالياً بالنسبة الى من يقطن في الجهة الاخرى من الكرة الارضية.
فالعلو المراد انما هو المعنوي منه، فقد كانت حقائق الكتاب مودعةً في “ام الكتاب” وفيه كل ما تدار به العوالم، وهو –اي ام الكتاب – في حقيقته خلقٌ نوراني من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، فأنزل الله سبحانه من ذلك الكتاب قرآناً يتناسب فهمنا ووعينا، عبر قولبته في الفاظ وكلمات.
فالمعاني السامية والحقائق العظمى، لايستطيع الانسان ادراكها الا عبر تيسيرها وجعلها قابلة لادراكه، وهكذا لو اراد الله سبحانه ان ينزل قرآناً على النمل لانزله متناسباً مع مستوى ادراك النمل.. فلكل خلقٍ من مخلوقات الله سبحانه –حتى الجمادات- وعيٌ وادراك يناسبه، بل ولغةً خاصة به.
على أن هذا القرآن، يتأثر به كل ما في العالم، فالجبل يخشع بكتاب الله سبحانه، كمال قال تعالى:
(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى‏ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون‏).
وكذا فإن تلاوة آيات القرآن الكريم او بعض سوره، على الماء – كما في النصوص- له أثره في اضفاء خصوصية للماء كالعلاج مثلاً.

[مِّنَ الرَّحْمَانِ]
كلمة الرحمن، تدل على الرحمة الالهية الشاملة، لأنها وردت بصيغة المبالغة، فرحمته –سبحانه- تشمل كل ابعاد الحياة البشرية، بحيث يعجز البشر على احصاء نعمه ورحماته عليهم.
فنعمة العين –مثلاً- ، ليست نعمةً واحدة، بل هي الاف النعم اجتمعت في مكانٍ واحد.
“جائني شخص مغتمّاً لما يلاقيه من صعوبات الحياة، شاكياً من حالته النفسية، وطلب مني علاجاً لما يعانيه من توتر وهموم، فاوصيته بأن يعدّ يومياً مئة نعمة من نعم الله عليه بمسبحة، ويشكر الله سبحانه عليها، على ان تكون النعم التي يحصيها اليوم مغايرة لما احصاها بالامس..
وجائني بعد ايام مدعياً احصائه جميع نعم الله سبحانه، فقلت له: يا هذا، احص النعم تفصيلاً، فكم نعمةً انعمها الله عليه في اذنك، وكم نعمة وهبها الرب لك في قلبك وعروقه ونبضه و..، فقال شاكراً: عرفت ما ترمي اليه، وذهب ..”
ان نعم الله على الانسان جمّت عن أن تحصر او تشكر، فلا يستطيع الانسان ان يكون شاكراً لله الا اذا ادرك انه عاجزٌ عن اداء الشكر، فقد روي عن الامام الصادق، عليه السلام، قال:
“فِيمَا أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى عليه السلام يَا مُوسَى اشْكُرْنِي حَقَ‏ شُكْرِي‏ فَقَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ أَشْكُرُكَ حَقَّ شُكْرِكَ وَلَيْسَ مِنْ شُكْرٍ أَشْكُرُكَ بِهِ إِلَّا وَأَنْتَ أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ قَالَ يَا مُوسَى الْآنَ شَكَرْتَنِي حِينَ عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مِنِّي.

[الرَّحِيمِ]
ورحمته الشاملة، دائمةً باقية، فالرحيم صفة مشبهة، تدل على الدوام والاستمرار، وقد قيل بأن الرحمن يدل على الرحمة العامة والرحيم على الرحمة الخاصة للمؤمنين، ولعله يكون صحيحاً ايضاً، الا انني ارتضي المعنى الاول اكثر، لأن الرحمة الإلهية شاملةٌ دائمة، وكما في دعاء الامام زين العابدين، عليه السلام: ” يا فارج الهم وكاشف الغم، يارحمن الدنيا والاخرة ورحيمهما، صل على محمد وآل محمد”.
فعلى الانسان ان يعتقد بحقيقة رحمانية الله ورحيميته، وعليه ان لا يعير لوساوس ابليس التي تدعوه الى سوء الظن بالله – سبحانه- اهتماماً، فاذا ما خشي احدنا من المستقبل وما سيجري فيه، عليه ان ينظر الى رحمة الله عليه في الماضي، اليس الله سبحانه هو من أسبغ عليه نعمه منذ ان كان نطفة في صلب أبيه او علقةً في رحم امه، او وليداً رضيعاً فعطف عليه قلوب الحواضن، او طفلاً فرزقه الطعام، وأنماه عاماً بعد عام او.. بل ، انه هو الله الرحمن الرحيم، وهو سبحانه يبقى رحماناً ورحيماً في قادم الآيام ومتعاقب الأزمان.
وحتى بالنسبة الى الآخرة، فإن المؤمن لا يخشاها كثيراً، لأنه يعلم ان رب الأخرة هو نفسه رب الدنيا، فهو الرحمن والرحيم هناك كما هو كذلك في الدنيا، ففي حديثٍ طويل عن حالة المؤمن بعد الموت، وكيفية دخوله القبر وما يلاقيه حين دخولها، ودخول منكرٍ ونكير عليه وسؤاله عن ربه ودينه ورسوله وامامه، واجابته على اسألتهم، يقول رسول الله، صلى الله عليه واله:
“یقولان له : … انْظُرْ مَا تَرَى عِنْدَ رِجْلَيْكَ فَإِذَا هُوَ بِبَابٍ مِنْ نَارٍ فَيَقُولُ‏ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ‏ مَا كَانَ هَذَا ظَنِّي بِرَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ فَيَقُولَانِ لَهُ يَا وَلِيَّ اللَّهِ لَا تَحْزَنْ وَلَا تَخْشَ وَأَبْشِرْ وَاسْتَبْشِرْ فَلَيْسَ هَذَا لَكَ وَلَا أَنْتَ لَهُ إِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُرِيَكَ مِنْ أَيِّ شَيْ‏ءٍ نَجَّاكَ وَيُذِيقَكَ بَرْدَ عَفْوِهِ قَدْ أَغْلَقَ هَذَا الْبَابَ عَنْكَ وَلَا تَدْخُلُ النَّارَ أَبَدا”
فهذه هي بعض مظاهر رحمة الله سبحانه وتعالى في الآخرة.
سائلين الله العلي القدير ان يوفقنا للسير على هدى الرسالة المحمدية، مستنيرين بنور القران المجيد، ومعتصمين بنهج الرسول الاعظم واهل بيته الطاهرين عليه وعليهم افضل الصلاة والسلام.

بصائر وسنن
• الحروف الهجائية في بداية السور لها معاني عميقة واسرار اودعها الله سبحانه قلوب اوليائه، ومنها ما ورد في سورة ” فصلت”، وقد كشف المعصومون، عليهم السلام، عن جانب من معاني كلة ” حم”.

• الحميد والمجيد، اسمان من اسماء الله الحسنى تجليا في آيات سورة فصلت.

• على المرء ان لا يعوّل على حمد الله ورحمته فيعصيه لأن الله مجيدٌ ايضاً، فيأخذ متجاوز الحدود اخذ عزيز مقتدر.

• الرحمن الرحيم، بيان عن رحمة الله سبحانه الشاملة لكل مناحي الحياة والباقية.

• ان حاول ابليس ان يجرك الى سوء الظن بالله سبحانه، فعليك ان تنظر الى نعم الله عليك ورحمتك في ماضيك.