Search Website

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (فصلت) شهر رمضان المبارك / 1436 هـ – (الدرس الثالث)

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (فصلت) شهر رمضان المبارك / 1436 هـ – (الدرس الثالث)

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة فصلت (حم سجدة).

شهر رمضان المبارك / 1436

الدرس الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

[كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثرَهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ(4)]

صدق الله العلي الظيم

بالتأمل في عالم التكوين يلتفت الانسان الى انه عالمٌ دقيقٌ للغاية، فبالرغم من اشتراك بعض حقائقها مثل اصل الوجود واصل الاحتياج الى الحيّز والزمان، الا ان اجزاء هذا العالم بينها مفارقات كبيرة وكثيرة جداً، الى درجة لا ينفع الالتفات الى تلك المشتركات دون التفاصيل الفارقة، والعلم هو الذي يكشف الحقائق ويميز المسائل المختلفة عن بعضها البعض.
فالانسان يرى العين، ولكن طبيب العين يرى مئات الاجزاء في العين، وكذا الاذن وكذا سائر المخلوقات.
ومن هنا يقوم العلم بدور المميز للحقائق، والوحي الصحيح هو ما يبين للانسان جميع الحقائق، ليس اجمالاً، بل بشكل تفصيلي.
ادعى البعض ان الوحي المنزل على رسول الله، صلى الله عليه واله، هو رؤيا، كان يراها النبي في منامه ليس الا، ولنا ان نسأل اصحاب هذا المنهج، لماذا هم لا يرون في منامهم كما رأى رسول الله، صلى الله عليه واله – حسبما يزعمون- !؟ فليرى احدهم في منامه سورةً او آية مثل آيات القرآن الكريم ومن ثم يبينوه لنا..
اضف اليه، فإن المنامات لا تعدو تبيّن بعض الامور المجملة والغامضة، مثل كلام الكهنة وتنجيم المنجمين حيث يخرصون ببعض التخرصات المجملة ويبيعونها على السذج من الناس.
ولكن القرآن الكريم ليس كذلك، بل فيه تفصيل الحقائق وبيانها بدقة متناهية، في بيان الوقت والعدد والاحكام و.. بل حتى في الفاظه المستعملة..
ففي باب الفرائض (الارث) – مثلاً- نجد الدقة العالية في بيان حصص الورثة ذكورهم واناثهم، وهذا لا يكون الا صادراً من عليمٍ حكيم.
وهذا هو الفرق بين الوحي والقرآن الكريم، وبين كلمات الفلاسفة وافكارهم، فالفلاسفة يذكرون مسائل مجملة وكلية دونما تحديد او بيانٍ دقيق، وان ناقشته فيما يقول يدعي عدم ارادته لهذا المعنى، بل معنىً ثانٍ، او يستعمل اسلوب التسفيه للهروب من المواجهة، حيث اعتاد امثال هؤلاء على رمي خصومهم بالجهل بما يقولون، وكأن كلامهم فوق عقول البشر.
في حين ان كلمات القرآن وكلمات الانبياء والائمة، عليهم السلام، ليست كذلك، بل هي في غاية الدقة، ومثاله ما قاله الامام الجواد، عليه السلام، في معرض الاجابة على سؤال يحيى بن الاكثم عن محرمٍ اصطاد، ففصّل الامام، عليه السلام، المسألة الى ثلاثين حالة، حتى ذهل يحيى..
وتبعاً لنصوص اهل البيت، عليهم السلام، نجد احد علمائنا وهو الشهيد الثاني يكتب كتابين في واجبات الصلاة ومستحباتها، اسمى الاول بالالفية وذكر فيه الف واجبٍ من واجبات الصلاة، وذكر في كتابه الثاني “النفلية” ثلاثة الاف من المندوبات والمكروهات المرتبطة بالصلاة.
فهذا هو الفارق بين الوحي، وبين تخرصات الكهنة وسفسطات الفلاسفة، وهو ذاته الفارق بين العلم والجهل.
[كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا]
آيات القرآن الكريم دقيقةٌ ومفصلة في تبيين الحقائق.
وفي هذه الكلمة بصيرةٌ لنا في قرائتنا لكتاب الله سبحانه، بأن لا نقرأ الكتاب هذرمةً، بل نتأمل في آياته وكلماته، فتغيير مكان الكلمة في القرآن يغير المعنى، بل تغيير الحركة الاعرابية يؤثر في معنى القرآن الكريم، فهناك فرق بين “القويم” و” المستقيم” وكلاهما يدلان على نفس المعنى، وكذا ثمة فرق بين لفظي “استقم” و “اقم” فلا يجوز ان استعمل هذه مكان تلك في كتاب الله، وكذا لا يمكن ان اجعل معنى هذه الكلمة مكان تلك الكلمة.
“فمادامت آيات القرآن مفصلة، فعلينا ايضاً ان نقرأها مفصلاً، وهذا هو الذي يبحث عنه العلماء، لأنه هو العلم، حيث يقول الله سبحانه في ذلك الآية: (لقومٍ يعلمون)”.
[آياته]
فالايات تعني العلامات والسمات، ومعنى ذلك ان الله اودع في كتابه بيان آيات الحقائق كلها، وبالتالي بيان الحقائق جميعاً، اذ لم يخلق الله سبحانه شيئاً الا وجعل له علامة تدل عليه، كما ان المخلوقات هي بذاتها علامات.
وقد وصف الله سبحانه القرآن، في هذه الاية، باوصافٍ ثلاثة، (كتاب – قرآن – عربي)، فما معنى هذه الصفات.
بين الكتاب والقرآن
الكتاب؛ من كتب يكتب أي ثبت يثبت، فمعنى ذلك ان القرآن حقيقة ثابتة ودائمة الى يوم القيامة.
والقرآن؛ من القرء بمعنى المجموع، فآيات الكتاب اجتمعت حتى صارت وحدة واحدة.
ولكن ما هو الفرق بين القرآن والكتاب، ونحن نطلق كلا الاسمين على الموجود بين الدفتين ؟
يبدو – والله العالم- أن حقائق القرآن الكريم نوعان، منها الثابتة التي لا تتغير ابداً ومنها حوادث يمكن حدوث تغير فيها، لسببٍ من الاسباب، يقول الله سبحانه: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدير).
“ولتقريب الفكرة، ففي القانون الوضعي، هناك دستور ثابت لا يتغير، ولكن القوانين الفرعية يمكن ان تتغير”
فالثابت من القرآن ” كتاب”، وما احتمل طروء تغيير فيه هو القرآن.
الكتاب العربي
[قُرْءَانًا عَرَبِيًّا]
هل المراد من العربي هنا، أن لغة الكتاب هي باللغة العربية، شأن ذلك شأن لغة أي كتابٍ آخر؟
من الواضح ان القرآن نزل بلغة عربية، وفي التأكيد على انه عربي، بعض الحقائق:
الاولى: أن اكمل اللغات هي اللغة العربية، فلا يستطيع احدٌ ان يدعي تفوّق لغةٍ من اللغات على اللغة العربية من حيث دقة الفاظها وسعة معانيها وبلاغة اوصافها، فكل لغاة العالم تعجز عن محاكاة اللغة العربية في دقتها، لما لها من سعة وتفصيل، “فحرف الجر (الباء) فقط، له تسعة عشر معنى، يختلف معناه باختلاف مكان الاستعمال”، بل انها اساس اللغات كلها، حيث انزل الله اللغة العربية ومنها تفرعت سائر اللغات، وهذه الحقيقة لا يذعن بها علماء الالسنية رغم توصلهم لهذه الحقيقة في بحوثهم في مسائل اللغات والالسنية.
الثانية: العربي بمعنى المفصح والمبين والموضح، فمعنى كون القرآن الكريم كتاباً عربياً، انه كتابٌ واضح.
الثالثة: يبدو ان في الاية اشارة الى معنى الحديث النبوي: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ- إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ بِالْإِسْلَامِ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَفَاخُرَهَا بِآبَائِهَا- إِنَّ الْعَرَبِيَّةَ لَيْسَتْ بِأَبٍ وَ وَالِدَةٍ- وَإِنَّمَا هُوَ لِسَانٌ‏ نَاطِقٌ، فَمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ فَهُوَ عَرَبِيٌّ، أَلَا إِنَّكُمْ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ- وَأَكْرَمُكُمْ‏ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُم‏)
ومعنى ذلك، ان النبي الاكرم صلى الله عليه واله، منع من جعل اللغة العربية اداة للعنصرية والقومية وبالتالي جعل اللغة العربية وسيلة الى تشرذم المسلمين.
فالبعض – بخلاف قول رسول الله، صلى الله عليه واله –جعلوا العربية قومية، وبدأوا بالتفريق بين المسلمين، فهذا تركي وذلك فارسي و..
فمعيار العربي، هو تحدثه بهذه اللغة، دون فرقٍ بين ان يكون منتسباً بأبه او امه الى العرب او لم يكن كذلك، وبذلك ردم الاسلام الهوّة بين المسلمين، فالفارسي المتحدث باللغة العربية – مثل سلمان- يصبح عربياً ولا حرج.
[لقوم يعلمون]
فحقائق القرآن الكريم فصّلت لمن يبحث عن العلم، ولا تخصيص لقومٍ دون قوم، او جماعةٍ دون أخرى، ذلك لأن نور العلم لا يعرف التمييز بين الافراد، كما لا تؤثر الازمان والأمصار في العلم.
[بَشِيرًا وَنَذِيرًا]
بجناحي البشارة والانذار، انزل الرحمن الرحيم كتابه، فلابد للبشر ان يعي الاختلاف بين الطرق الماثلة امامه في الحياة، لابد له ان يميز –بعلم- بين الحق والباطل، وبايات البشارة وايات الانذار يفرق القرآن الكريم بين الحق والباطل.
الإعراض حقيقته واسبابه
[فَأَعْرَضَ أَكْثرَهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ]
ذكرنا في مقدمة الحديث عن هذه السورة المباركة، ان اولى العقبات التي تعترض طريق الانسان في طريقه الى قمة الاستقامة هي عقبة “الاعراض”، اذ لابد له من تجاوزها.
وههنا تبين الأية، بأن اكثر الناس يعرضون عن القرآن الكريم، مما يمنعهم من الاستماع اليه.
فما هي حقيقة الاعراض وما هي اسبابه؟
حقيقة الاعراض، تكمن في وصول الانسان الى مرحلة يخال ذاته مستغنياً عن أي شيء، متشبعاً بما يمتلك من افكار ومعتقدات. فحتى لو قرأ كتاباً او استمع الى خطاب وعظٍ تجده لا يستفيد ابداً، مبرراً ذلك بعلمه السابق بما هو مكتوب او بما يقال، وانها مكررات لا تجدي نفعاً و.. وبالتالي يغلق نوافذ قلبه عن نور الحقيقة فلا يصغي الى شيء سوى ما يدور في خلده.
واسباب الاعراض ثلاثة:
الاول: اغترار الانسان بما يملك، وحسب التعبير القرآني “فرحه بما اوتي”، فاذا قرأ عليهم النبي كتاب الله، قالوا انا مكتفون بما نملك من كتبٍ سابقة، قال الله سبحانه: (وَ إِذا قيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى‏ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُون‏). وهذا منطلق اكثر من يعرض عن الاستماع الى الحق، مثل اليهود والنصارى.
ومثل هذه الحالة قد تعترض كل واحدٍ منا في بعض الاحيان، فيصاب بالتحجر وقسوة القلب، فلا يقبل نصح الناصحين، مكتفياً بما لديه، متناسياً حاجته الدائمة الى التقويم والتسديد والتعلم.
ولا يمكن للانسان بحالٍ من الاحوال ان يدعي اكتفائه من العلم او النصح او.. ، فقد امر الله سبحانه أعظم خليقته، وهو النبي الاكرم، صلى الله عليه واله، بأن يسأله المزيد من العلم، قال تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْني‏ عِلْما).
الثاني: التعصب
فالتعصب للذات او القبيلة او الحزب او القويمة، يمنع الانسان من الاستماع الى الحق، وقد كان مرض التعصب سبباً لدخول زرافات من الناس الى نار جهنم بسبب اعراضهم عن الاستماع الى انبياء الله واوصيائهم.
فأبي سفيان، يعد مثالاً بارزاً لمن تعصب لذاته وعشيرته، فاعرض عن الاستماع الى بصائر الوحي، بحجة عدم امكان بعث نبي من بني هاشم وتقدمهم على بني امية –بوجود النبي منهم – بعد ان كانوا كفرسي رهان. ودعاه ذلك الى محاربة الاسلام واحداث الفتن العظمى التي عانت الامة ولا زالت تعاني من مشاكلها.
وهكذا، تعصّب اليهود ضد العرب، منعهم من اتباع الرسول العربي، صلى الله عليه واله. فهم وبالرغم من هجرتهم الى المدينة المنورة للقاء النبي الذي سيبعثه الله، واتباعه، اعرضوا عن الاستماع الى رسول الله، صلى الله عليه واله، لأنه بعث من العرب ولم يبعثه الله من بينهم.
“وفي مقابل هذين المثالين نجد مثالاً رائعاً لاتباع الحق والاستماع اليه، متمثلاً بشيعة اهل البيت عليهم السلام، فهم لا يتعصبون لقوميتهم او لغتهم أبداً في أمر دينهم، وتاريخ التشيع يثبت ذلك، حيث كان مراجع الدين العظام من قوميات وجنسيات مختلفة وبلدان متفاوتة، ولكن لم يكن يؤثر ذلك على مقامهم شيئاً.”
الثالث: المصالح
مصالح الانسان الخاصة، واهوائه وشهواته، كلها تمنع الانسان من الاستماع الى حق، فلا يبحث الكثير من الناس عن العلم، بل يبحث عن مصالحه الشخصية، فإن وافق العلم اخذ بها، والا ضرب به عرض الجدار.
لكي لا نكون من المعرضين
وفي الآية بصيرة هامة، بأن نقرأ القرآن ونعتبر خطاباته موجهةً لنا كأفراد، لا ان ننأى بأنفسنا عن الخطابات القرآنيه، ويحاول ابليس دائماً ان يبعد الانسان عن بصائر القرآن الكريم، اما بابعاده عن كتاب الله كلياً، او جعله يعتبر آيات القرآن تتحدث عن الآخرين دون ان تمس شخصه، وقد تكون هذه الحالة نوع من انواع الاعراض، لأن الاعراض حقيقة نسبية.

• الفرق بين الوحي وما يتصل به ، وبين تكهنات البشر او زخرفة الفلاسفة ، أن الاول يبين الحقائق بدقة وتفصيل ، ويكتفي الثاني بتخرصاتٍ مجملة.
• دقة القرآن وتفصيله في بيان الحقائق يكشف عن وحيانيته ، ولا يدع مجالاً للتشكيك فيه.
• على المؤمن ان يكون دقيقاً في قرائته للقرآن ، فالكتاب المفصّل لابد ان يتلى بتفصيل.
• لاتباع الحق لابد من تمييزه عن الباطل ، و عبر ايات البشارة وايات الانذار يفرق القرآن الكريم بين الحق والباطل.
• لا علاقة للعلم بكل العلائق الاخرى ، فلا يجوز الاعراض عن العلم بسبب حامله ومبلّغه ، او كيفية تبليغه.
• الفرح والتعصب والبحث عن المصلحة ، تعد الاسباب الرئيسية للاعراض عن الحق.