Search Website

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (فصلت) شهر رمضان المبارك / 1436 هـ – (الدرس الثامن)

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (فصلت) شهر رمضان المبارك / 1436 هـ – (الدرس الثامن)

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة فصلت (حم سجدة).

شهر رمضان المبارك / 1436015

الدرس الثامن

بسم الله الرحمن الرحيم

خلقة السماوات

[ثمُ‏ اسْتَوَى إِلىَ السَّمَاءِ وَ هِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لهَا وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا  طَائعِينَ (11) فَقَضَئهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فىِ يَوْمَينْ‏ وَ أَوْحَى‏ فىِ كلُ‏ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا  بِمَصَابِيحَ وَ حِفْظًا  ذَالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(12)]

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

 

بعد أن تحدثت الآيات القرآنية عن مراحل خلقة الأرض وتقدير الاقوات فيها ، ببيانٍ يفتح الآفاق  الواسعة امام العلم البشري ، ويفنّد خرافاتهم التي ذكروها في مثل هيئة بطليموس ، بعد  ذلك يبدأ الله سبحانه الحديث عن السموات وخلقتهن وما جعل فيهن.

إنه رب العالمين

وقبل الخوض في الحديث عن الآيات لابد من طرح تساؤل عن سبب عدم خلق الله سبحانه للسماوات والارضين دفعةً واحدة ، بل جعلها على عدة مراحل؟

سببه ان الفيض الالهي دائمٌ لا ينتهي ، ولفيضه الدائم يخلق المخلوقات كل يوم ، اليس هو رب العالمين ؟

وكلمة الرب تعني التربية الدائمة .. مثل تربية الزرع منذ ان تدس حبته في التراب ، وتربية الطفل ورعايته منذ حتى يكبر مرحلة بعد أخرى.

فالرب ، سبحانه ، هو ذلك الخالق الذي يعطي فيضه لمخلوقاته دوماً.

وثمة بصيرة هامة : ان الفلاسفة لا يؤمنون بربوبية الله سبحانه رغم  قبولهم خالقيته عزوجل ، كما هو حال الكفار اليوم ، حيث يؤمنون بصانعية الله ، ولكنهم لا يؤمنون بأن عطائه دائم وهيمنته مستمرة.

حتى ان بعض فلاسفة المسلمين كان يذهب – في تفسيره لبعض الايات-  الى عدم علم الله عزوجل بالجزئيات – سبحانه وتعالى عما يقول – ويعلل فكرته الواهنة الى ان علم الله بالجزئيات يعد قبيحا.

وقد استغربت كثيراً من هذه النظرية في البدء ، ولكن بعد التحقيق اكتشفت انها نابعة من نظريتهم المسماة بنظرية ” الفيض” والتي تتلخص فكرتها في ان الله سبحانه لم يخلق الخلق بارادته وعلمه ، بل خرجت المخلوقات منه ، كما يخرج الماء من النبع دون ارادة النبع او علمه ، او كما يخرج شعاع الشمس منها ، سبحانه عما يقولون.

و تتلازم هذه النظرية المنحرفة بنظرية منحرفة اخرى هي القول بقدم المخلوقات ، او بعبارة اخرى القول بوجود قديم سوى الله سبحانه وتعالى.

اقول : كل هذه النظريات المنحرفة والاخطاء الحائدة عن الصواب ، تعود في جذورها الى عدم الايمان بربوبية الله سبحانه وتعالى.

والحق ، ان الله سبحانه خلق ما خلق بارادةٍ كان قد خلقها قبل الأشياء ، وكما في الحديث عن الامام الصادق عليه السلام : ” خَلَقَ‏ اللَّهُ‏ الْمَشِيئَةَ بِنَفْسِهَا ثُمَّ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ بِالْمَشِيئَةِ”[1] ، وكثيرة هي آيات القرآن الكريم التي تبين مراحل خلقة الانسان من طورٍ الى اخر ، بهدف تعميق الايمان بربوبية الله سبحانه ، حيث خلق الله الانسان من نطفةٍ متناهية في الصغر الى علقة ثم الى مضغة ، ليتذكر الانسان عطاء الله الدائم وفيضه المستمر ، قال الله تعالى: [هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُورا][2] ، وفي ذيل هذه الاية قال الامام الباقر عليه السلام : ” كَانَ شَيْئاً وَ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورا”[3].

[ ثم]

هل معنى الكلمة هذه عن البعدية الزمانية ، الذي يعني ان خلقة السماوات كانت بعد مراحل خلقة الأرض؟

كلا، ان خلقة السماوات – كما ثبت في الكثير من الآيات القرآنية – كان قبل خلقة الأرض ، وهذا ما لا شك فيه ، اما معنى كلمة ” ثم ” هو البعدية البيانية ، لا الزمانية.

فبعد ان تحدث الله عن خلقة الارض ، سيشرع في الحديث عن خلقة السماوات.

[ ثم استوى إِلىَ السَّمَاءِ]

يبدو أنّ كلمة الإستواء تعني معنى القيام و الاهتمام و القصد (بإضافة معنى إلى) و الهيمنة، و كلّها مرادة في هذه الجملة، و لكن بالطبع من ملاحظة استخدام الكلمة في مقام الربوبية المقدّس عن أيّة همهمة أو تجوال فكرة أو حركة، سبحانه.

[ وهي دخان]

الدخان ، شيء تكون فيه موجودات دون ان تكون متمركزة ، بل منتشرة ، وهو ما يطلق عليه في اللغة ” سديم” ، واذا القينا الى السماوات بنظرة ، وجدنا ان الاجرام السديمية باضعاف الاجرام الثابتة المتمركزة مثل النجوم والكواكب ، في حال ينجذب الـ ” سديم” الى هذه الاجرام الثابتة شيئاً فشيئاً فتتسع ، وهذا ما تقوم به المذنبات في جمعها للسديم.

[ فَقَالَ لهَا وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ]

 

امرهم الله سبحانه بالمجيء برغبةٍ منهم وطاعة ، والا سيعمل فيهم الاكراه ، اذ لا حرية لدى المخلوقات ليخالفوا اوامر الله سبحانه وتعالى ، الا ما لدى البشر من حرية وهبها الله له لمتحنه بها.

[قَالَتَا أَتَيْنَا طَائعِينَ]

تنفيذاً لامر الله وطاعة تامة لأرادته ، استجابت السماوات.

ونستفيد من هذه الكلمة ، ان رحمة الله سبحانه هي الحاكمة والمهيمنة في عالم الوجود ، فكل ما في الوجود يسبح بحمد الله ويعبده ، لما يرى من آيات عطفه ورحمته عزوجل.

 

[ فَقَضَئهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فىِ يَوْمَينْ‏ ]

لم نستوعب – لحد الأن- المعنى الدقيق للسماوات السبع ، وبالطبع فليس من الحتم ان نعرف كل ما يقوله القرآن الكريم اليوم ، بل قد تستوعب الاجيال القادمة حقائق تبينها الايات القرآنية ،  لم نتمكن من ادراكنا ، كما استوعبنا اليوم حقائقَ قرآنية عجز السابقون عن فهمها.

الا ان الثابت المسلّم ، هو أن كل ما يقوله القرآن الكريم حقيقي وان لم ندرك معناه.

ومن هنا اختلفت آراء المفسرين في تفسير السماوات السبع ، فقال قوم انها تعني سماوات الاقاليم السبع ، وهو بعيد.

وقال آخرون انها تعني وجود سبع مجاميع من المجرّات، و المجرّة الواحدة كالتي نحن فيها المسمّاة بسكّة التبّان، وهو تفسيرٌ غير صحيح ايضاً لمعرفتنا بأن المجرات ومجاميعها ليست سبعة ولا سبعين بل هي بالملايين.

وقيل ان العدد للدلالة على الكثرة ، وهذا ما لا نرتضيه ايضاً لأن عدد الكثرة المستعمل في القرآن هو سبعين لا سبعة.

وقد قيل – وهذا ما نرتضيه من الاقوال-  أن كل ما في المجرّات التي نعرف عنها من شموس و أجرام تقع في السماء الأولى، و إنّ للّه سماوات أخرى غيرها فيها ما لا يعلمها إلّا اللّه من كائنات عظيمة ، وبالتالي ليتحسس الانسان صغر حجمه ، فكل ما اكتشفه عبر الاجهزة والنواظير وانكسار الاشعة والمركبات الفضائية الناقلة للصور الدقيقة و.. كل ذلك ، لم يعط الانسان القدرة على اكتشاف السماء الأولى ، فكيف بسائر السماوات؟

وكان خلقة السماوات في يومين – كما كان خلقة الارض- ، وكما ذكرنا هناك ان المراد من اليومين – حسبما يبدو- هو مرحلتين او دورتين.

[‏ وَ أَوْحَى‏ فىِ كلُ‏ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ]

بوحيه سبحانه ، تم كل ما يُحتاج اليه في كل سماء ، بحسب الغاية المبتغاة من خلقتها ، ويبدو أنّ أمر كلّ سماء قيادتها و نظامها و ما يتعلّق بها من شؤون التدبير أنّ كلّ تلك قائمة فيها كما لو كانت وحدة إدارية، و لعل من أمرها ملائكة اللّه التي فيها.

[وَ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَ حِفْظًا  ]

جعل الله النجوم في السماء لتكون مصابيح وزينة ، وكذا قدّر سبحانه ان تكون النجوم تقوم بمهمة الحفظ للأرض ، فالغازات المحيطة بالأرض تحفظ الأرض من ملايين الشهب التي تتساقط عليها كلّ يوم، كما أنّ اللّه يحفظ الأرض بالمصابيح من الشياطين.

[ذَالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ]

الأرض وما فيها ، والسماوات وما تحويه من عجائب الصنع ، كل ذلك تقدير الهٍ قوي ظهرت آيات قوته في صنعه ( عزيز) وعليم بكل شيء.

والآية تدفعنا من معرفة المخلوقات الى معرفة خالقها ، فبعد تقريب الانسان الى ما في هذا الكون الرحيب من عجائب الصنع ، يدله على ان هذا هو من صنع الله العزيز العليم ، وعلى الانسان ان لا يشتغل كثيراً بدراسة علم المخلوقات ، بل عليه ان يطوي الطريق لمعرفة الخالق.

فيعرف خالقه باسمائه الحسنى التي هي صفاته ، فكلما وعى صفةً واسماً من صفاته واسمائه الحسنى اقترب الى معرفة الله سبحانه ، واسماء الله تتجلى في آياته المبثوثة في الخليقة ، اليست آيات ” الجمال” مودعة في كل شيء تقع عليه ابصارنا ؟ اوليست اسمائه سبحانه كالقوي والعزيز والمقتدر ، تتجلى في قدرته في صنع كل شيء وقدرته على كل شيء؟

إن اسماء الله سبحانه بمثابة عروة تقرب المؤمن الى الله سبحانه ، وعلى المؤمن ان يتمسك بها عبر التفكر في آيات الرب ، وجعل الوجود كله مدرسةً لمعرفة الله ، والاستفادة من فرصة الحياة للاستزادة من المعرفة ، فمهما كانت معرفة المؤمن بربه في الدنيا ، سيكون نصيبه منها في الآخرة ايضاً دون زيادة .

ولهذا الأمر – اي معرفة الله من خلال التأمل في آيات صنعه – نتيجةٌ اخرى ، وهي انس المؤمن بالطبيعة وكل ما فيها ، بعكس ما كانت تسعى اليه النظريات البشرية  – مثل دارون- من جعل الانسان في مقابل الطبيعة ليحاربها وينتصر لذاته.

نسأل الله سبحانه ان يوفقنا للمزيد من معرفته ، انه ولي لذلك وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

 

صفوة القول

  • لم يخلق الله سبحانه السماوات والارض دفعةً واحدة ، بل خلقها عبر مراتب ومراحل زمنية ، لأنه ربٌ لا ينقطع عطائه ولا ينتهي فيضه.
  • النظريات المنحرفة مثل نظرية الفيض والقول بقدم المخلوق والمانوية ، كلها تنشأ من عدم الايمان بربوبية الله سبحانه.
  • رحمة الله سبحانه هي الحاكمة على الوجود ، لأنها سبقت غضبه.
  • كما لم تستوعب الاجيال السابقة بعض حقائق القرآن الكريم واستوعبناها نحن ، كذلك سيأتي يوم يستوعب الاجيال اللاحقة ما لم نفهمه من حقائق في القرآن الكريم.
  • عبر الخليقة يستوعب الانسان اسماء الله سبحانه ، واسمائه عزوجل بمثابة عروة تقرب المرء من معرفة الله عزوجل.
  • كلما زاد وعي الانسان باسماء الله الحسنى ،ازداد معرفة به سبحانه.
  • الدنيا هي مدرسة المعرفة ، فما كان نصيب الانسان من المعرفة في الدنيا فهو نصيبه ايضاً في الآخرة ، بلا زيادة او نقصان.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الكافي: ج1 ،ص 110

[2] سورة الانسان : الاية 1

[3] المحاسن: ج1 ،ص 243