Search Website

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (فصلت) شهر رمضان المبارك / 1436 هـ – (الدرس السادس عشر)

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (فصلت) شهر رمضان المبارك / 1436 هـ – (الدرس السادس عشر)

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة فصلت (حم سجدة).

شهر رمضان المبارك / 1436

الدرس السادس عشر

 

بسم الله الرحمن الرحيم038

 

[ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَ قالَ الَّذينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلينَ (29) ]

آمنا بالله ، صدق الله العلي العظيم.

في يوم القيامة ؛ حيث تبلو السرائر وتتكشف الحقائق ، وحيث تكون الابصار حديد وتحد الاسماع ، وحيث يخلد اهل النار في النار ، يومئذٍ يسأل الكفار من الله سبحانه ان يدلهم على الذين اضلوهم ، سواء المضل الإنسي او الجني ، ليجعلوهم تحت اقدامهم انتقاماً لغوايتهم لهم ، بعد ان قدروهم في دار الدنيا وجعلوا كلماتهم – الباطلة – تيجاناً لرؤوسهم.

والسؤال الهام هو ، ما الذي نفعله لنتجنب هذا المصير الأسود ولا نكون ممن تغويهم شياطين الانس والجن؟

قبل الإجابة على هذا السؤال المصيري ، لابد من القول بأن لقلب كل واحد منا اذنان ، وخلف كل اذن يستقر ملك يدفعه نحو جميل الخصال وطيب الفعال ، وفي الثاني يستقر شيطان يوسوس في قلبه ويدفعه نحو الضلالة ، كما في الحديث عن الامام الصادق ، عليه السلام : ” مَا مِنْ قَلْبٍ‏ إِلَّا وَ لَهُ أُذُنَانِ- عَلَى أَحَدِهِمَا مَلَكٌ‏ مُرْشِدٌ وَ عَلَى الْآخَرِ شَيْطَانٌ‏ مُغْتَرٌّ- هَذَا يَأْمُرُهُ وَ هَذَا يَزْجُرُهُ- وَ كَذَلِكَ مِنَ النَّاسِ شَيْطَانٌ يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى الْمَعَاصِي- كَمَا يَحْمِلُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْجِنِّ”[1].

وبين هذه الدعوات وتلك يتقلب قلب الانسان ، فدعوة الى العقل والحق ، واخرى الى الهوى والباطل ، ولينجو الانسان من وساوس الشياطين ، عليه ان يميّز – وبوضوح- بين الالقائين ( الرحماني والشيطاني). ذلك لإن وساوس ابليس دقيقة جداً فقد يستدرج المرء الى المعاصي عن طريق دعوته الى مجموعة من الاعمال الصالحة ليوقعه في الفخ ، فكان لزاماً على المرء ان يتفطن لمثل هذه الخطوات الشيطانية.

ومن هنا ؛ فإن اولى الخطوات في سبيل الاقتراب الى الله سبحانه تكمن في تشخيص المرء لمنبع منوياته والقائاته ودوافعه القلبية ، هل هي من القاءات الملك المرشد او الشيطان المغتر! ولكن كيف السبيل الى ذلك؟

لكي نميز بين الحق والباطل

العقل اولاً

اول خطوة يخطوها الانسان في سبيل التمييز بين دوافعه الداخلية تكمن في تقويته لنور عقله ، فالعقل هو المميز الاساس بين الحق والباطل ، وبه يعرف الصواب من الخطأ وبه يتم اتباع الحق لأنه يأمر صاحبه بذلك ، وحين لا يستمع الانسان لنداء عقله يخبو نوره ويضعف وهجه ، كما فعل العرب حين كانوا يسيرون في الصحاري ويرون آلايات الدالة على الله سبحانه في كل شيء – وفي انفسهم – ولكنهم بحثوا عن إله غير الله ، حتى وصل بهم الأمر الى صناعة اصنام من تمر يعبدونه برهةً واذا ما المّ بهم الجوع وقعوا على الهتهم فأكلوها.

والعقل هو الحجة في كل زمانٍ ومكان ، وكما قال الامام الرضا ، عليه السلام ، في اجابته لاسئلة ابن السكيت حيث سأله : ” فَمَا الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ الْيَوْمَ؟

فَقَالَ علیه السلام : ” الْعَقْلُ يُعْرَفُ بِهِ الصَّادِقُ عَلَى اللَّهِ فَيُصَدِّقُهُ وَ الْكَاذِبُ عَلَى اللَّهِ فَيُكَذِّبُهُ.

فَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: هَذَا وَ اللَّهِ هُوَ الْجَوَابُ.[2]

رفض القیم الباطلة

ومن أجل ان يتبع الانسان نور عقله ، عليه ان يرفض كل الحجب التي تمنعه من رؤية الحق والحواجز التي تمنعه من العمل به ، من الثقافات الباطلة والقوى المزيفة مثل قوة العشيرة والمجتمع والسلطة الغاشمة و..

ولم يذكر القرآن الكريم قصة النبي ابراهيم ، عليه السلام ، للتسلي ، بل ذكرها للاعتبار ، حين قام النبي بمحاربة كل تلك القوى ، بدءاً من عمه الذي كان يفترض ان يعتمد عليه ، وانتهاءاً بقمة الهرم الباطل ( الالهة والاصنام) ، وبفعله ذلك اراه الله سبحانه ملكوت السماوات والارض.

ثانياً : نور الوحي

بعد الالتفات الى نور العقل على المرء ان يستمسك بالوحي المتمثل – كما ذكرنا – بالقرآن واحاديث العترة الطاهرة عليهم السلام.

والسبيل الوحيد لفهم القرآن هو التدبر في آياته الكريمة بعيداً عن كل الاغلال والموانع ، التي تتمثل حجباً تمنع المرء وعي آيات القرآن بصورة صحيحة ، مثل المسبقات الفكرية ، والاهواء الشخصية ، و الوساوس الشيطانية ، قال تعالى : [أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها][3]، ذلك لأن ” فَضْلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ‏ اللَّهِ‏ عَلَى خَلْقِه‏”[4]، كما قال رسول الله ، صلى الله عليه واله.

وبعبارة ؛ فإن للقرآن الكريم روحاً لابد لقارئ القرآن ان يتصل بها  ، واذا ما اتصل بتلك الروح فستلهم له الحقائق ويبصر في ادراك الوقائع.

فعلى المؤمن ان يسعى دوماً للتدبر في آيات القرآن الكريم ، للاستفادة من آياته في واقعه الفردي والاجتماعي ، والا فما هي قيمة القراءة التي لا تدبر فيها ؟ وكما قال الامام الصادق ، عليه السلام : ”  وَ لَا تَجْعَلْ قِرَاءَتِي قِرَاءَةً لَا تَدَبُّرَ فِيهَا بَلِ اجْعَلْنِي أَتَدَبَّرُ آيَاتِهِ وَ أَحْكَامَهُ آخِذاً بِشَرَائِعِ دِينِكَ وَ لَا تَجْعَلْ نَظَرِي فِيهِ غَفْلَةً وَ لَا قِرَاءَتِي مِنْهُ هَذَراً إِنَّكَ أَنْتَ الرَّءُوفُ الرَّحِيم‏”[5]..

ولابد ان يلتفت المتدبر في القرآن الكريم بأن لا تتحول كلمات المفسرين السابقين للقرآن حجباً تمنع عقله من استنطاق الايات الكريمة ، لأن التفاسير السابقة – حتى لو صحت- فإنها تتناسب مع ظروفهم الزمانية ، وقد لا تتناسب مع ظروفنا اليوم.

ثالثاً: روايات العترة الطاهرة

على أن الاهتمام بالقرآن يعني الاهتمام بروايات اهل البيت ، عليهم السلام ، ايضاً ، للتلازم بين الكتاب والعترة ، ولأن الله سبحانه جعل النبي الاكرم ،صلى الله عليه واله ( ومن بعده عترته الطاهرة) مبيناً وموضحاً لآيات القرآن ، قال سبحانه : [بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون‏][6].

كما ان روايات اهل البيت تعد المنابع الصافية لثقافتنا ، اذ تعد النصوص الشريفة مثل الادعية والوصايا والخطب والحكم دائرة معارف لكل جوانب الحياة.

رابعاً: العالم الرباني

الأمر الرابع هو العالم الرباني الذي يتمسك به الانسان مسترشداً بهديه ومتعلماً من علمه ، لئلا يكون من الهمج الرعاع ( والهمج هو نوع بعوض يتحرك بحركة الرياح ) ، وكما قال أمير المؤمنين ، عليه السلام ، لكميل بن زياد الذي كان يقوم الامام بتربيته ، قال : ” يَا كُمَيْلُ إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا احْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ: النَّاسُ‏ ثَلَاثَةٌ عَالِمٌ‏ رَبَّانِيٌ‏ وَ مُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَ هَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيق‏”[7]. والركن الوثيق يتجسد في العالم ، ولكن أي عالم ؟

ليس كل داعٍ يعد عالماً يصح الالتفات حوله ، بل لابد ان يكون العالم يقرب الانسان – فعلاً – الى الله سبحانه ، وكما عن النبي عيسى بن مريم ، عليه السلام حين سئل : يَا رُوحَ اللَّهِ مَعَ مَنْ نُجَالِسُ ؟

قَالَ النبی علیه السلام :” مَنْ يُذَكِّرُكُمُ‏ اللَّهَ‏ رُؤْيَتُهُ وَ يَزِيدُ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ وَ يُرَغِّبُكُمْ فِي الْآخِرَةِ عَمَلُه‏”[8].

ومضافاً الى تلك المعايير ، فللشيعة معيارٌ آخر يعرفون به العالم الحقيقي ، وهو تجسيده لاخلاق ومناقبيات العترة الطاهرة ، فكلما اتصف العالم اكثر بصفات اهل البيت ، عليهم السلام ، كان الاجدر بالاتباع والتمسك.

نسأل الله سبحانه ان يوفقنا للتميز بين الحق والباطل ، واتباع الحق ومخالفة الباطل ، انه ولي التوفيق وصلى الله على محمد واله الطاهرين.

 

صفوة القول

  • اولى الخطوات في سبيل الاقتراب الى الله سبحانه تكمن في تشخيص المرء لمنبع منوياته والقائاته ودوافعه القلبية ، هل هي من القاءات الملك المرشد او الشيطان المغتر.
  • العقل والكتاب والسنة والعالم الرباني ، هي وسائل المؤمن في التمييز بين الحق والباطل.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] تفسیر القمی : ج2 ، ص450

[2] الكافي: ج1 ، ص 25

[3] سورة محمد : الاية 24

[4] جامع الاخبار: ص 40

[5] الاختصاص : ص 141

[6] سورة النحل : الاية 44

[7] الغارات : ج1 ،ص 90

[8] مصباح الشريعة : ص 21 ، عن الامام الصادق ، عليه السلام عن جده امير المؤمنين ، عليه السلام.