
تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (فصلت) شهر رمضان المبارك / 1436 هـ – (الدرس الثامن عشر)
05 Jun 2023تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة فصلت (حم سجدة).
شهر رمضان المبارك / 1436
الدرس الثامن عشر
بسم الله الرحمن الرحیم
[ وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّني مِنَ الْمُسْلِمينَ (33)]
صدق الله العلي العظيم
هل تنتهي مسؤولية الانسان بوصوله الى قمة الإستقامة ، ان هناك ثمة مسؤولية اخرى تنتظره في تلك المرحلة؟ وبعبارة اخرى ، إن وصل الانسان – بتوفيق الله اولاً وبسعيه ثانياً- الى مرحلة الاستقامة ، فماذا عليه ان يفعل؟
في الحقيقة بوصوله الى مرحلة الاستقامة ، تبدأ مسؤولية المؤمن في دعوة الاخرين ومساعدتهم في الوصول الى ما وصل اليه هو ، ويسعى في رفع مستوى الآخرين ، وهذه هي مسؤولية الانبياء والاوصياء والمقربين ، حيث كرسّوا حياتهم المباركة في سبيل رفع مستوى الناس الى مرحلة الايمان ومن ثم الاستقامة ، لأنهم يحبون الخير للبشرية جمعاء.
فمؤمن آل يس ، عذّبه قومه وقطعوه ارباً ارباً تحت التعذيب ، ثم احرقوا جثته ، وبعد ذلك ذروا رماده في البحر ، بعد كل ذلك القهر والاضطهاد ، يتمنى لقومه – الذين عذبوه- دخول الجنة ، قال تعالى : [قيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُون ][1].
” وهذا هو المستوى الذي يصل اليه المؤمن الحقيقي ، حيث يريد الخير للجميع ، الا ترى كيف تدعو الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء ، سلام الله عليها ، للمؤمنين ولا تدعو لنفسها ، وكما قال الامام الحسن ، عليه السلام : ” َ رَأَيْتُ أُمِّي فَاطِمَةَ علیها السلام قَامَتْ فِي مِحْرَابِهَا لَيْلَةَ جُمُعَتِهَا فَلَمْ تَزَلْ رَاكِعَةً سَاجِدَةً حَتَّى اتَّضَحَ عَمُودُ الصُّبْحِ وَ سَمِعْتُهَا تَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ وَ تُسَمِّيهِمْ وَ تُكْثِرُ الدُّعَاءَ لَهُمْ وَ لَا تَدْعُو لِنَفْسِهَا بِشَيْءٍ ،فَقُلْتُ لَهَا يَا أُمَّاهْ لِمَ لَا تَدْعِينَ لِنَفْسِكِ كَمَا تَدْعِينَ لِغَيْرِكِ ؟
فَقَالَتْ : يَا بُنَيَّ الْجَارَ ثُمَ الدَّار”[2]
وكذا فعل ابوها الرحمة المهداة للعالمين ، صلى الله عليه واله ، حين طلب من عزرائيل ان يشدد عليه سكرات الموت ، ليخففها عن امته.”
خير الناس
[ وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ]
وهب الله نعمة البيان للانسان فامتاز بها عن سائر الخلائق ، ولكن الكثير من الناس يستفيدون من هذه النعمة في اطار الحديث عن ذواتهم ، فكل ما يتحدث به يتمحور حول شخصه وما يرتب بنفسه.
ومنهم من يتحدث عن الشؤون المختلفة في الحياة فيشغل لسانه بالحديث عن السياسة والاقتصاد و .. ، ولكن افضل الناس هو من يستفيد من نعمة اللسان وموهبة البيان في الدعوة الى الله سبحانه وتعالى ، وهو قبل ذلك دائم الذكر لرب العالمين.
صفات خير الناس
ولهذا الشخص المؤمن ، صفاتٌ ثلاث تميزه عن الآخرين هي :
اولاً: دعوته المستمرة الى الله سبحانه وتعالى ، قال تعالى : [ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدين][3].
فلا يدخل مكاناً الى ويعطّره بذكره لله سبحانه وتعالى ، بل ويجعل المحيط خاضعاً له لذكره لله سبحانه وتعالى ، اليس كل شيء في الوجود خاضعٌ لله ولاسمائه الحسنى؟
الانسان بين التأثير والأثر
ولا بد من الالتفات الى ان الانسان – في أي محيطٍ – لا يخلو اما ان يكون مؤثراً او متأثراً ، فهذه سنة الحياة اذ لابد من وجود فعل وانفعال بين اي شيء ومحيطه ، فلابد للمؤمن ان يتحصّن من التأثر بمحيطه – الذي يكون فاسداً في الكثير من الاحيان – كما يتحصن العاملون في الاجواء الموبوءة بالامراض ، وذلك بمحاولته التأثير فيه ، بالدعوة الى الله سبحانه للتأثير فيه .
ومع وجود هذا الدافع ، فإن دافع التكليف هو الآخر يحمل المؤمن على دعوته للآخرين ، كيف؟
المؤمن بالدين والملتزم باحكامه ، مسؤولٌ شرعاً عن تبليغه للآخرين ، الم يقل النبي الاعظم ، صلى الله عليه واله : ” كُلُّكُمْ رَاعٍ وَ كُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه”[4] ، فكل مؤمن مكلفٌ – بحسبه – بالدعوة الى الخير والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وارشاد الجاهل و..
ومما يؤسف عليه ، تركُ المؤمنين لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بسبب الهجمة الاعلامية المركزة على هذا الركن الاساسي من اركان الامة الفاضلة.
ودعوة المؤمن للخير لا تعرف حدود الزمان والمكان ، فالمؤمن ينشر عبق ايمانه اينما حلّ ، دون انتظارٍ منه لمواتاة الفرص التامة لوقوع دعوته محل قبول الآخرين.
[وَ عَمِلَ صالِحاً]
ثانياً: ثاني صفات احسن الناس ،عمله لاعمال الخير قبل دعوته للآخرين ، فبعد ان يصل المؤمن الى مرحلة الاستقامة يصفه الله بأنه احسن الناس لدعوته لله سبحانه وتعالى.
فالمؤمن یعمل الصالحات قبل دعوته للناس الى العمل بها ، اذ لا يكتفي بالدعوة عن العمل أبداً ، ارأيت شخصاً يريد الخير للآخرين ثم يبخل به على نفسه ؟ كلا؛ انما يطلبه لنفسه قبل غيره
[وَ قالَ إِنَّني مِنَ الْمُسْلِمينَ]
ثالثاً: انسلاخه عن ذاته ، فالمؤمن الصالح يتناسى نفسه وانانياتها ، ويذوب في بوتقة الرسالة ، وينصهر في رحاب الإيمان ، ومثله مثل الانبياء يدعون الناس الى الله سبحانه – لا الى ذواتهم – ويضحون في سبيل رسالته بكل ما يملكون ، ويعلنون – دوماً- انهم لا يسألون الناس اجراً على رسالتهم وتضحياتهم.
وصايا في سبيل الدعوة
وظيفة الدعوة الى الخير ، لا تقتصر على اناس محددين ، بل هي شاملة لكل ابناء الأمة الاسلامية ، ومن هنا فإني اوصي المؤمنين ببعض الوصايا في هذا المجال:
الأولى: على كبار السن ، ان يجمعوا ابنائهم واحفادهم واراحامهم ، في اوقات محددة ، لنقل التجارب اليهم ، ووعظهم ، ودعوتهم الى جميل الخصال وحسن الفعال ،فما أجمل ان تمتزج صلة الرحم بالدعوة الى الخير ، وليس اولى من الأب والجد في دعوة ابنائه الى الخير والصلاح.
الثانية: على كل مؤمن ان يشترك في هيئة او مؤسسةٍ خيرية – مهما كان اتجاهها- ، اذ ان الاشتراك في هكذا هيئات وروابط تنفع المؤمن في اكثر من موقع ، وخصوصاً فإنه يجمع المؤمنين حول مائدة العمل الصالح ، الامر الذي يسهم في تفعيل وظائف الشورى والتعاون والاحسان ، التي تعد قوام المجتمع الاسلامي المتقدم . على أن علاقة المؤمن بمؤمنين آخرين تنفعه في شفاعتهم له يوم القيامة ، فالمؤمن قد يعطيه الله سبحانه الشفاعة في مثل ربيعة ومضر ، وكما في الحديث عن الامام الباقر ، عليه السلام : ” وَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَشْفَعُ فِي مِثْلِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَشْفَعُ حَتَّى لِخَادِمِهِ وَ يَقُولُ: يَا رَبِّ حَقُّ خِدْمَتِي كَانَ يَقِينِي الْحَرَّ وَ الْبَرْد”[5].
الثالثة: لأن الهجمة الثقافية التي تواجهه الامة الاسلامية باتت شرسة ومتعددة الاطراف ، فعلى كل مؤمنٍ ان يزيد من تمسكه بدينه ، وذلك عبر زيادة معرفته بالدين واحكامه وحِكَمه ، وذلك يتم اما من خلال التفرغ للدراسة الدينية ، او عبر وجود برنامج للمطالعة المركزة مع دروس اسبوعية مع رجال دين كفوئين.
نسأل الله ان يجعلنا من الداعين الى الخير والعاملين به ، انه سميعٌ مجيب ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
صفوة القول
- ببلوغه مرحلة الاستقامة ، تبدأ مسؤولية المؤمن في دعوة الاخرين الى الحق.
- المؤمن هو من يطلب الخير للآخرين كما يطلبه لنفسه.
- خير الناس من دعا الى الله سبحانه وعمل العمل الصالح وتجرد عن ذاتياته.
- من سنن الله سبحانه في الخليقة ، تأثير الشيء بمحيطه او تأثره به ، وهذا الامر يصدق في الانسان ايضاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة يس : الاية 26
[2] علل الشرائع : ج1 ، ص 182
[3] سورة النحل : الاية 125
[4] عوالي اللئالي : ج 1 ، ص 364
[5] تفسير القمي : ج2 ، ص 202