
تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (فصلت) شهر رمضان المبارك / 1436 هـ – (الدرس العشرون)
05 Jun 2023تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة فصلت (حم سجدة).
شهر رمضان المبارك / 1436
الدرس العشرون
لا تسجدوا للمشس والقمر
[وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)]
للبشر خلقتان ، بخلاف جميع المخلوقات الأخرى التي لها خلقة واحدة لا غير ، ففي البشر خلقة للروح واخرى للجسم ، وكما ان التقدير الالهي اقتضى ان يكون جسم الانسان محتاجاً الى العمل على تقويته وتنميته ، كذلك هي الروح ، حيث اوكل الله سبحانه جانب تكاملها الى الانسان نفسه مع اعطائه ادوات ذلك ، وبعبارة اخرى اعطى الله الانسان جزءاً من الخالقية باعطاءه المشيئة والارادة ، نعم ؛ تبقى مشيئته وارادته تابعة لمشيئة الله ومأخوذة منه، كما قال تعالى : [وَ ما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمين][1].
وعطاء الله سبحانه لهذه النعمة – المشيئة- لم يكن في زمانٍ مضى وانتهى ، بل هو عطاءٌ مستمر في كل لحظة من لحظات الحياة ، فحين يريد الانسان فانما تنبثق ارادته من ارادة الله سبحانه ، وكما في الحديث عن رسول الله ، صلى الله عليه واله ، قال : ” اللَّهُ يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ بِمَشِيَّتِي كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي تَشَاءُ لِنَفْسِكَ مَا تَشَاءُ- وَ بِإِرَادَتِي كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي تُرِيدُ لِنَفْسِك ما ترید..”[2]. وهذه الحقيقة تظهر معنى ” بسم الله الرحمن الرحيم ” وكذا ذكر ” لا حول ولا قوة الا بالله”.
الانسان ..رحلة من المظهر الى الجوهر
من ابعاد هذه الحقيقة ، هي انا كبشر نعيش الظواهر بحواسنا ، فنرى ونسمع ونتلمس المظاهر فقط ، ولابد لهذه الرؤية السطحية ان تتحول الى رؤية الوقائع كما هي ، فمن المظاهر نعبر الى الحقائق ، وبعبارة اخرى نكون من اولي الالباب الذين لا يغترون بمظاهر الحياة ، ويكون ذلك عبر مجموعة من الخطوات التي جعلها الله سبحانه لنا ، من الصلاة والصيام والحج .. كل ذلك للوصول الى الحقائق متجاوزين المظاهر.
[وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ]
الشمس والقمر كلامهما مظهرين من مظاهر قدرة الله سبحانه ، وآيتين من آياته المبثوثة في الخليقة.
فنحن نرى الشس الكبيرة في حجمها ، بحيث تكون الكرية الارضية بالنسبة اليها كالحلقة الملقاة في الفلات الواسعة ، والشديدة في حرارتها ، والمنيرة لكوكبنا و.. ولكن ذلك كله ظاهرها..
ونحن نرى – كذلك- القمر ، الذي لا تستقي منه كرتنا الارضية الضياء فحسب ، بل وبه يكون توازن الكرة الارضية ، حيث المد والجزر المرتبطان به ، بل وحتى يتأثر الانسان بالقمر وحركته ، وما تأكيد الدين الحنيف على مجموعة من الاعمال والتروك في اوقات معينة من حركة القمر ، الا دليلٌ على حجم تأثير القمر على حياة الانسان .. اقول ، كل ذلك ايضاً هو ظاهر القمر..
فما هي الحقيقة التي ينبغي ان نصل اليها من خلال نظرنا الى هذين الآيتين العظيمتين ؟
[لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ]
الله يقول للانسان ، ايها الانسان لا تنبهر بالشمس والقمر الى درجة تجعلهما الهةً تعبدهما ، بل تأملهما حتى تصل الى خالقهما ، واعبده هو دونهما.
بل ان الشمس والقمر خلقهما الله من اجل الإنسان وسخرهما له ، كي يسعى باتجاه الاهداف التي خلق من أجلها ، وكما في الحديث القدسي : ” عبدي خلقت الأشياء لأجلك و خلقتك لأجلي”[3]
وليست الشمس ولا القمر ، الا آية من بين ملايارات الآيات الدالة على قدرة الله سبحانه ، وما في هذا الفضاء الرحيب اجسام اعظم من الشمس والقمر ، مثل النجوم العظيمة ، والحفر السوداء التي تبتلع الشموس الكبرى ، و.. كلها محتاجة الى الخالق والصانع ، الذي هو الله لا اله الا هو.
البشرية بين عبادة المخلوق والخالق
[وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ]
عبد البشر – في تاريخه- اشياء مختلفة من دون الله ، فبدأ – كما يدعي البعض- بعبادة الاشجار وثنّى بالخضوع للثمار واستمر حتى وصل الى عبادة الشمس والقمر والحجر والبقر و..
ترى ؛ لو كانت الشمس والقمر الهه تستحق العبادة ، فلمَ لا نرى منهم ارادةً حقيقية ؟ فهي – ومنذ ملايين السنين- تتحرك ضمن برنامج محدد ودقيق ، لا تقدر على الحيد عنه قيد انملة ، فهل هذه الا صفة للمخلوق المقهور؟
وقد ادّعى البعض قبل أيام ، بحدوث تغيّر في حركة الشمس ، بمقدار نصف الثانية . ورغم انّا لا نصدق ذلك ، ولكن لو افترضنا صدقه ، فإن هذا ايضاً دليلٌ على المخلوقية للشمس ، فكل تلك السنين المتطاولة وكل تلك الحركات المختلفة ، بقيت منتظمة ولم يحدث فيها تغيّر الا نصف ثانية؟
على الانسان ان يمتلك النظرة العبورية في حياته ، فيتجاوز المظاهر ليصل الى معرفة الله سبحانه وتعالى، كيف؟
وكذلك السجود من وسائل الوصول الى مرحلة، يستطيع المرء فيها العبور من المظاهر والواقع ، وبذلك يصل الى مرحلة اولي الالباب ، فتميز عن سائر الخلق بإيمانه بالله الخالق والصانع للكون وما فيه.
توافق العبادات مع الفطرة
إن العبادات التي نؤديها في حياتنا ، هي في حقيقتها مودعة في فطرتنا ، ولذلك تتناسب كل العبادات مع وجدان الانسان السوي ، فالقيام –مثلاً- هي حالة فطرية لدى المرء اذا اراد تأدية الاحترام ، فيقوم لمن يريد اجلاله ، ارأيت كيف تؤدى تحية الجندي في الجيش – مهما كان دينه- عبر القيام والقاء التحية؟
والركوع هي الاخرى طريقة للاحترام ، ووجود اناسٍ يستعملون الركوع في تحياتهم العادية دليلٌ على تناسب هذا الفعل مع الفطرة.
وكذلك السجود ، يعتبر وسيلة لاظهار الخضوع التام والخشوع.
اوليست الصلاة جامعة لكل هذه الافعال؟ بل واكثر من ذلك. فليفكر الذين ينكرون الصلاة ولا يؤدونها في افعالها ، ففيها القيام والركوع والسجود ، وفيها حديث الخالق مع المخلوق بتلاوة القرآن ، وفيها الحديث مع الخالق عبر الدعاء ، وفيها الذكر والحمد والشكر و..
وبها يصحّ جسم الانسان ، وعبرها تنتظم حياة الانسان و .. وقد كتب احد العلماء عن الفوائد الصحية الجمة للصلاة.
“فالصلاة نظام الحياة السعيدة ، وقد كتبت كتاباً قبل اربعة عقود بإسم ( الصلاة برنامجٌ كامل) ، في هذا المجال.”
الخلوة مع الرب
وبالرغم من كل ما في الصلاة من فوائد ، فإن المناجاة مع الرب والاقتراب منه يكون عبر السجود ، فاذا اردت الخلوة مع الله سبحانه فعليك بالسجود ، فعن سعيد بن يسار قال : ” قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَدْعُو وَ أَنَا رَاكِعٌ، أَوْ سَاجِدٌ؟
قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ، ادْعُ وَ أَنْتَ سَاجِدٌ؛ فَإِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ وَ هُوَ سَاجِدٌ، ادْعُ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ لِدُنْيَاكَ وَ آخِرَتِكَ“[4].
فبالسجود ينفصل العبد عن المحيط ، ويلتجأ الى الله سبحانه ، متحسساً الذل مستشعراً الخضوع ، ناظراً الى عجزه وفقره وضعفه ، مناجياً ربه بالمأثور : ” سَجَدَ لَكَ سَوَادِي وَ خَيَالِي وَ آمَنَ بِكَ فُؤَادِي أَبُوءُ إِلَيْكَ بِالنِّعَمِ وَ أَعْتَرِفُ لَكَ بِالذَّنْبِ الْعَظِيم”[5].
وكان السجود دأب المعصومين ، عليهم السلام ، حتى لقّب الامام زين العابدين ، عليه السلام ، بالسجّاد لكثرة سجوده لله ، فكان – كما يروى- ينزل من الدابة ساجداً لله سبحانه لتذكره نعمة من نعم الله او رؤيته آية من آيات الله.
ولما لهذه العبادة خصوصاً من اهمية ، نجد تخصيص القرآن الكريم وجوب السجود في بعض آياته – ومنها هذه الاية – والندب اليه في آيات أخرى.
الايمان بالاخرة
الإيمان بالآخرة هو الطريق الاساس للاقتراب من الحقائق وتجاوز النظرة السطحية ، وبه يمتاز المؤمن عن غيره ، فالمؤمن يعيش الآخرة بروحه وان كان في الدنيا بجسمه ، فيعمل لها دوماً ، وينظر اليها من خلال كل ما في الحياة ، بعكس الكافر بها الذي عمي عنها فلم يهتم بها ابدا.
” وعلينا ان ننمي الايمان بهذه الحقيقة في وجودنا، خصوصاً في هذه الليالي المباركة ، وبعد ان خطونا خطوات كبيرة في سبيل الاقتراب الى الله سبحانه وتعالى ، فلابد ان نبقي ما عملناه ونسعى للمزيد ، وذلك بأن نقر بالموت بصورة عملية ، فلا نغتر بالدنيا ونعمل للآخرة حتى نصل الى مرحلة نحب فيها الموت ، وكما في الحديث عن الامام الباقر ، عليه السلام : ” جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ، صلى الله عليه واله ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِي لَا أُحِبُ الْمَوْتَ قَالَ ، صلى الله عليه واله : أَ لَكَ مَالٌ؟
قَالَ نَعَمْ.
قَالَ صلى الله عليه واله فَقَدَّمْتُهُ ؟
قَالَ لَا .
قَالَ: فَمِنْ ثَمَّ لَا تُحِبُّ الْمَوْتَ لِأَنَّ قَلْبَ الْمَرْءِ عِنْدَ مَالِهِ”.
نسأل الله سبحانه ان يوفقنا للعمل للآخرة ، انه ولي لذلك وصلى الله على محمد واله الطاهرين.
صفوة القول
- خلق الانسان وله جانبان : الجسم والروح ، وعليه ان يسعى بجَهده لتنمية وتقوية هذين الجانبين بالادوات التي اتاحها الله سبحانه له.
- على المؤمن ان ينظر الى الاشياء من حوله نظرة عبورية ، فمن خلال المظاهر يصل الى الحقائق الكبرى.
- عبر الايمان بالله واليوم الآخر والعبادة والسجود لله ، يستطيع المؤمن ان يتجاوز المظاهر وصولاً الى الحقائق.
- السجود ، مظهر الخضوع التام لله سبحانه ، فبه ينقطع المرء عن المحيط ويتلجأ الى الله وحده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة التكوير : الاية 29
[2] تفسير القمي : ج1 ،ص 211
[3] الجواهر السنية في الاحاديث القدسية : ص 710
[4] الاصول الستة عشر : ص 184
[5] الکافی: ج3،ص 324