
تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (فصلت) شهر رمضان المبارك / 1436 هـ – (الدرس الثاني والعشرون)
05 Jun 2023تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة فصلت (حم سجدة).
شهر رمضان المبارك / 1436
الدرس الثاني والعشرون
[ وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ الَّذي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ (39) إِنَّ الَّذينَ يُلْحِدُونَ في آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ (40)]
آمنا بالله ؛ صدق الله العلي العظيم.
المؤمن بالله يتخذ من الحياة مدرسة للمعرفة ، فكل لحظةٍ يستغلها لمعراج روحه ، وكل يوم يمتطيه للقرب من الله سبحانه وتعالى ، فغده خيرٌ من يومه وفي يومه اقرب الى الله من أمسه ، وكما في الدعاء : ” وَ اجْعَلْ غَدِي وَ مَا بَعْدَهُ أَفْضَلَ مِنْ سَاعَتِي وَ يَوْمِي”[1]. كل ذلك انطلاقاً من علمه بمحدودية العمر الذي هو بمثابة رأس ماله للوصول الى الله سبحانه وتعالى ، وعلمه بالخسران العظيم الذي يناله ان لم يستفد الاستفادة المناسبة من هذه الفرصة.
ومن أبعاد انتفاع المؤمن من الحياة ، ان يجعل نظره اليها نظر عبرة ، فيكتسب العلم بكل نظرة وان كان عالماً يصل الى اليقين و اليقين درجات يرتقيها الواحدة تلو الأخرى ، فهو راغبٌ وطالب للنمو الدائم والتكامل المستمر، الأمر الذي يحصل عليه من خلال النظرة العبورية ، كيف؟
كل ما خلقه الله سبحانه في هذا الكون يعد آية على وجود الله ووحدانيته فـ ” في كل شيء له آية .. تدل على انه واحد”.. وهذه الآيات تحدث الانسان بلسان حالها على آيتيتها لله سبحانه وتعالى ، فالقمر يخبره بمصنوعيته لصانعٍ قدير ، والشمس تحدثه بأنها مخلوقة لخالقٍ قدير ، وكما في رائعة أمير المؤمنين ، عليه السلام : ” يَا مَنْ دَلَعَ لِسَانَ الصَّبَاحِ بِنُطْقِ تَبَلُّجِهِ ..”[2] ، في اشارة الى ان للصباح لسانٌ يصدع بصوتٍ عالٍ بوحدانية الله سبحانه وتعالى ، الامر الذي يتطلب الاذن الواعية لادراك ذلك.
وفي سورة فصلت ، حديث عن آيات الله سبحانه ، والكيفية التي ينبغي ان نتعامل مع تلك الايات ، وكذلك ذكر للحجب التي تحجبنا عن الحقائق وكيفية التخلص منها.
ومن تلك الآيات هي الأرض التي نعيش عليها ، اذ ان النظر الى الارض والتأمل في خلقها وشؤونها المختلفة يقرب الانسان الى الله سبحانه وتعالى.
[ وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ]
من آيات الله سبحانه الأرض التي نسير عليها ولا نستغني عن عطائها ، والتي نراها صباح مساء ، وهي من آيات الله سبحانه ، كيف؟
الارض على نوعين ، النوع الاول هي الارض الصلدة التي لا تتحرك لصلابتها ولا يدخل اليها ماء ولا يخرج منها نبت ، اما النوع الثاني فهي الأرض العادية التي يكسوها التراب، وهي التي هيأها الله سبحانه لمسكن الانسان ، حيث قال: [وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُون][3].
انها – الارض- اطاعت ربها سبحانه حين امرها قائلاً: [فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعين][4]، وهي خاشعة ( منتظرة) لغيث السماء .
[فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ ]
تتحرك الارض بهطول المطر ، وتنمو ( ربت من الربا ) ، فتصعد الأرض عشرات السانتيمترات بعد نزول الماء اليها.
ومن هذه المعادلة نستفيد امرين :
القلب الخاشع
الامر الاول: قلوبنا – نحن البشر- هي بمثابة الارض ، وآيات القرآن الكريم مثل قطر السماء ، فاذا كانت القلوب خاشعة فسوف تحيى بتلقي الآيات وتنمو ، فيزداد القلب علماً وكمالاً.
اما القلب القاسي المشابه في قسوته للصخرة الصماء – بل اشد- ، فانه لا ينتفع بآيات القرآن الكريم ،كما لا تنتفع الصخرة من الأمطار ، بل تتضرر لذهاب ما عليها من التراب بوابل المطر ، وكذلك القلب القاسي يزداد ظلالاً وقسوة بالآيات القرآنية ، قال تعالى : [وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنينَ وَ لا يَزيدُ الظَّالِمينَ إِلاَّ خَسارا][5].
انواع المخلوقات دليل القدرة
كان الانسان لحظة انعقاد النطفة اصغر من النملة في حجمه ، فكان ولم يكن مذكوراً لتناهيه في الصغر ، وخالق هذا البشر هو نفسه خالق السماوات والفضائات الرحيبة التي لا يعلم مساحتها الا هو سبحانه وتعالى ، وبين الذرة والمجرة ملايين الملايين من المخلوقات ، التي خلقها الله سبحانه وفي جميعها اعمل الدقة واللطف والخبرة. كل ذلك لبيان قدرته في الصنع والايجاد ، فعن الحسن بن علی بن فضال عن الامام الرضا ، عليه السلام ، قال : قُلْتُ لَهُ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَ خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ الْخَلْقَ عَلَى أَنْوَاعٍ شَتَّى وَ لَمْ يَخْلُقْهُ نَوْعاً وَاحِداً ؟
فَقَالَ: “لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْأَوْهَامِ أَنَّهُ عَاجِزٌ فَلَا تَقَعُ صُورَةٌ فِي وَهْمِ مُلْحِدٍ إِلَّا وَ قَدْ خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَيْهَا خَلْقاً وَ لَا يَقُولُ قَائِلٌ هَلْ يَقْدِرُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ عَلَى صُورَةِ كَذَا وَ كَذَا إِلَّا وَجَدَ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى فَيَعْلَمُ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنْوَاعِ خَلْقِهِ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”[6].
[إِنَّ الَّذي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ]
فالله سبحانه ، الخالق للارض المحيي لها بعد الموت والقادر على كل شيء ، هو الذي يحيي الموتى وليس ذلك بعزيزٍ عليه.
والاية تبين دليلين على قدرة الله سبحانه على احياء الموتى يوم القيامة :
الاول: احياءه للارض الميتة ، الامر الذي يراه الانسان بأم عينه وليس له انكاره.
الثاني: قدرته ، سبحانه ، على كل شيء ، الذي ظهر في مخلوقاته المتنوعة.
عن البعث والنشور
ولما كان الانسان اكثر شيءٍ جدلاً ، بينت النصوص الشرعية بعد التأكيد على قدرة الله على البعث كيفية اعادة الله سبحانه الأموات الى الحياة للمحاسبة ، ومجمل ما يستفاد من النصوص هو بقاء جزءٍ من الانسان الى يوم القيامة دون تلاشي، ففي القبر تتلاشى كل الاضافات التي لحقت بالانسان في رحم امه وفي الدنيا ، وتبقى “دويرة” صغيرة جداً ، هي الذر الذي خلقه الله في عالم الذر.
وبحلول الساعة ، يامر الله سبحانه السماء لتمطر اربعين صباحاً ، وتتحول القبور الى مثل رحم الأم بالنسبة لتلك الذرات ، فتنمو ويقوم الانسان متسوياً من قبره ، قال تعالى : [وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُون][7].
نعم ؛ هناك من يبقى في حجم الذر ولا يكبر ، فتطأه الاقدام في ساحة المحشر، وهم المتكبرون.
اعملوا ما شئتم
مشكلة الانسان تكمن في عدم فهمه او عدم ارادته لفهم آيات الله سبحانه ، والتعامي عن نورها الموصل الى الحقائق. تراه ينكر آيات الله كلها ، سواء الايات المرئية ( الطبيعة ) او المقروئة ( القرآن المجيد) او الناطقة ( الانبياء والائمة عليهم جميعاً سلام الله) و يستحب العمى على الهدى.
[إِنَّ الَّذينَ يُلْحِدُونَ في آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا ]
الالحاد هو اتخاذ الطريق المائل عن الصراط ، يقال ( الحد في الطريق) اي انتقل من طريق الاستقامة الى الطريق المنحرف.
من الناس من لا يريد قبول ايات الله سبحانه كما هي ، فيحاول تحريفها لتتناسب مع اهوائه ، فلا ينتفع بها ، و المثال الجلّي هو ميل جند الكوفة عن الذهاب الى الري ونشر الاسلام هناك – كما كان مقرراً له – والذهاب – بدلاً عن ذلك- الى كربلاء لمحاربة ابن صاحب الشريعة النبي الاعظم ، صلى الله عليه و آله وسلم.
اما الامثلة الخفية لهذه الحالة فكثيرة ، وقد يصاب كل واحدٍ منا بهذه الحالة ، حيث نسعى لتحوير الحقائق كما نشتهي ونراها من منظارنا الخاص وقولبتها في قوالب صنعناها نحن من أجل مصالحنا ، قال تعالى : [فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْويلِهِ][8].
ولكن ماهو السبب في حدوث هذه الحالة لدى البشر؟
لأنه لا يريد قبول الحقائق ، فيسعى جاهداً لنئي نفسه عنها ، فتراه يؤمن بالموت ولكن لجاره لا لنفسه ، فحتى لو سمع عن ميتٍ ، يعلل ذلك بمرضٍ او كبر سنٍ او حادثٍ او.. كل ذلك ليبعد شبح الموت عن نفسه.
ومن مظاهر عدم قبول الحقائق، قيام الناس بافعال تبعد الحقائق عنهم ، مثل السعي في اندراس سنة تشييع الموتى ، وابعاد القبور عن البيوت ، وتجميل المقابر وكأن الزائر لها في نزهة و..
ومن مصاديق تحوير آيات الله سبحانه ، تركيز الانسان على جانب من جوانب الدين وتركه للجوانب الآخرى – تلبيةً للهوى والمصلحة- فتراه يتشبث بروايةٍ واحدة ضعيفة السند ، في مقابل مجموعة من الآيات الصريحة والروايات الصحيحة.
[لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا ]
يقدر المرء تلبيس الحاده وتكذيبه بالوانٍ مختلفة من التبريرات ، حتى يخدع المجتمع واهله ، وقد يخادع نفسه بتلك التبريرات ، ولكن ذلك لا يخفى على الله سبحانه ابداً.
” السارق يبرر جريمته – حتى قبل قيامه بها – عبر اقناع نفسه بأنه محتاج ، وان ماله بيد الغني و.. ولكن كل تلك التبريرات تبقى في خانة خداع الذات.
[أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ ]
لماذ يلحد هؤلاء؟
انما يلحدون في آيات الله ( المقروءة والمرئية والناطقة) ليهنأوا في العيش في الدنيا، ويأمنوا من المخاطر التي تستتبع تحملهم لمسؤولية الايمان بالله سبحانه وآياته.
ولكن خفي على هؤلاء أن امان الدنيا لا شيء اذا لحقه خوفٌ وعذاب في القيامة ، وخوفٌ في الدنيا لا يعتبر خسارةً اذا استتبعه آمانٌ في القيامة.
فعند الخروج من القبر ، يفزع الجميع لما يرونه من هول المطلّع ، ولكن المؤمن وحده ينتظره ملك يؤمنه ويسليّه ليدخل السكينة في قلبه قبل مرافقته له الى باب الجنة.
[اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ]
وفي نهاية الآية تحذيرٌ من الله لخلقه وتهديدٌ للملحدين ، فهو سبحانه اتاح للناس الحرية في الدنيا ، ولكنه بصيرٌ بما يعلمونه ومحاسبهم على ذلك في القيامة.
صفوة القول
- من الايات الجلية لله ، هي الارض ، لأن الانسان يراها ويعيش عليها وينعم بوجودها طيلة حياته.
- على المؤمن ان يسعى في جعل قلبه خاشعاً قابلاً للنصح منتفعاً بايات الله سبحانه وتعالى.
- احياء الارض والقدرة الالهية على كل شيء ، دليلان على امكانية احياء الانسان بعد الموت.
- يلحد الانسان في ايات الله ابعاداً لنفسه عن الحقائق، ليعيش حياةً آمنة.
- تبرير المرء لذنوبه وسلوكياته الخاطئة ، لا يعدو خداعاً للذات ، لأن الله سبحانه اقرب اليه من حبل الوريد.
- من سنن الله سبحانه اعطاء الانسان الحرية في الدنيا فقط ، ليمتحنه ويجازيه خيراً او شراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] البلد الامين والدرع الحصين : ص 109 ؛ من ادعية الإمام زين العابدين ، عليه السلام.
[2] بحار الانوار: ج84 ، ص 334
[4] سورة فصلت : الاية 11
[5] سورة الاسراء : الاية 82
[6] عیون اخبار الرضا ، عليه السلام : ج2 ، ص 75
[7] سورة يس : الاية 51
[8] سورة آل عمران : الاية 7