Search Website

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (فصلت) شهر رمضان المبارك / 1436 هـ – (الدرس الرابع والعشرون)

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (فصلت) شهر رمضان المبارك / 1436 هـ – (الدرس الرابع والعشرون)

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة فصلت (حم سجدة).

شهر رمضان المبارك / 1436

الدرس الرابع والعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم009

 

[ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقابٍ أَليمٍ (43) وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ في‏ آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعيدٍ (44) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفي‏ شَكٍّ مِنْهُ مُريبٍ (45)]

آمنا بالله ؛ صدق الله العلي العظيم

بالرغم من توافر كمٍ من اسباب الهداية ووسائلها ، الا ان الانسان يختار الضلالة على الهدى ، فما هو السبب وراء ذلك ؟

الاجابة على هذا السؤال تعد من البحوث الهامة التي تتعرض لها آيات كثيرة في القرآن الكريم ، اذ ان هذا الامر يؤرق بال الكثيرين ، ويشغل اذهان اكثرهم في قوالب وساوس شيطانية او انسية ، قائلين : ان الانسان لا يهتدي الى سواء السبيل بالرغم من ارسال الرسل وانزال الكتب و… فإذن لا فائدة من كل ذلك مادامت النتائج لا تحقق.

وتتصدى آيات الذكر لعلاج هذه الوسوسة في ذهن الإنسان، كما يتصدى لحل جميع مشاكله ، وذلك لأن القرآن الكريم كتاب واقعي ، فليست كلماته مجرد نظريات بعيدة عن ارض الواقع.

” ولعمري ؛ هذا هو الاسلوب الذي ينبغي ان يتبعه الدعاة والعلماء في تعاملهم مع الجمهور ، فينبرون لطرح الحلول الناجعة لمشاكل الناس الفكرية والعقدية بكل واقعية”.

اصناف الناس في مواجهة الدعوة

في مواجهة أية دعوة سماوية ، يختلف الناس بحسب موقفهم من الرسالة ، فمن الناس من يدأب في توجيه انحرافه وتبرير اخطائه .. فلكي يخلي عاتقه عن تحمل المسؤولية تجاه عدم إيمانه بالرسالة ، يقوم باتهام الرسول او من حوله او حتى يذهب ابعد من ذلك ، فيضع الشروط والمقترحات على الرسول ليؤمن به ويصدقه.

وهذا النموذج كان مع كل نبيٍ من الانبياء بصورةٍ او أخرى ، فبنو اسرائيل اقترحوا على النبي موسى ، عليه السلام، أن يريهم الله جهرةً ، وان يجعل لهم الهاً كما لعبدة الاصنام الهة ، وأن يوفر لهم طعاماً خاصاً ، و…

وكفار قريش طلبوا من النبي الاكرم ، صلى الله عليه واله ، ان يسأل “ربه” بأن يزيح الجبال المحيطة بمكة لتتسع، وحين طلب النبي ، صلى الله عليه واله ، ذلك من الله عزوجل ، استجاب الله ذلك له ولكن بشرط ان يؤمن الجميع ، والا يكن كذلك ينزل عليهم العذاب ، لأنها كانت آية مبصرة على صدق النبي ، ولا مهلة بعد التكذيب بالآية المبصرة.

ومن الناس من يعتبر نفسه اعلى مرتبة من الناس ، بسبب امتلاكه شيئاً من المعلومات التي يستأكل بها و يستعلي بسببها على عامة المجتمع ، وهؤلاء النفر يرفضون انتشار اي رسالة او ثقافة بين الناس الا عبر طريقهم هم ، لتكون لهم الهيمنة والسلطة على الناس.

ولذلك عارضوا – ويعارضون – ان يكون الدين واضحاً للجميع ، وان يكون كتاب الرب ميسّراً لفهم الجميع ، وقد كان النموذج الاجلى لهذه الفئة ، علماء اليهود والنصارى الذين واجهوا رسالة النبي الاعظم ، صلى الله عليه واله ، بتحريف الحقائق وتدليسها وخداع الناس ، قال الله سبحانه : [قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون‏][1]

[ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ]

الرد على الدعوة الالهية واحدة في جذورها ، وان اختلفت مظاهرها واساليبها ، وما نراه اليوم من افكار ونظريات تحاول النيل من الشريعة المقدسة او التلاعب بقيمها وتعاليمها ، مثل نظريات ( القبض والبسط في الشريعة ) و نظرية ( الهيرومنطيقيا) و.. ليست بالجديدة ، بل ناشئة من جذور تضرب في اعماق التاريخ ، وان البسها اصحابها ثياباً جديدة وقوالب عصرية.

ومن هنا ؛ فعلى الدعاة ان لا يهابوا تلك المفرقعات التي يأتي بها المشككون في الرسالات ، بل يواجههوها بكل شجاعة ، لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه ، والله سبحانه من وراء ذلك يسدد المحق ويؤيده.

والآية تبين للنبي الاكرم ، صلى الله عليه واله ، وبالتبع كل داعٍ يدعو الى الله ، أن الرد على الرسالة والتشكيك بها ومحاولة النيل منها و… كل ذلك امرٌ طبيعي يصدر من الناس، كما حدث ذلك مع الانبياء السابقين

[إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقابٍ أَليمٍ]

ما علاقة غفران الرب بما سبق ؟ وكذلك ما علاقته كونه ذو عقاب أليم بما سبقه ؟

ان الله سبحانه ، خلق الخلق ليرحمهم ، وارسل الانبياء والرسل رحمةً بهم ، ولذلك فإنه لا يأخذهم بمجرد رفضهم للدعوة ، بل يتيح لهم الفرصة تلو الاخرى للعود الى الله سبحانه عبر الاستجابة لدعوة الرسل.

ومن ذلك نستفيد ، ضرورة تحلي الدعاة الى الله بسعة الصدر ، لكيلا يكفّروا المشكك في قولهم منذ الوهلة الاولى ، ويحكموا عليه بالضلال ويحتمّوا عليه دخول النار ، بل يسعون دائماً اخراج الناس من الظلمات الى النور.

نعم ؛ إن اصرّ الكافر على كفره وغوايته ، رغم تكرار المحاولات وظهور الادلة والبراهين ، فإن غفران الرب لا يشملهم ، بل يشملهم العذاب الاليم.

أأعجميٌ وعربي؟

[وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ]

لو كان الكتاب الذي انزل على النبي الاعظم ، صلى الله عليه واله ، غامضاً في عباراته وصعباً في مطالبه ، لطالبوا بتفصيله وتسهيله ، والحال انه قرآنٌ فصلت آياته ويسّر للفهم ، فما هي حجتهم بعد ذلك؟

فالقرآن الكريم – وكذا الرسالات كلها- مفهومة وميسّرة ولا عجمة فيها ، بل المشكلة تكمن في ذات الانسان ونفسه الأمارة بالسوء.

[ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ ]

ثم هل يتناسب – اعجمي- انزال كتابٍ اعجمي مع رجل هو الافصح بين العرب كلهم؟

فالنبي الاكرم ، صلى الله عليه واله ، هو افصح العرب ، وكما قال هو ، صلى الله عليه واله : ” أَنَا أَفْصَحُ‏ الْعَرَب‏”[2]،  لأنه كانه من بني هاشم ، وهم افصح قريش  ، وقريش بدورهم كانوا افصح القبائل العربية لهجة، لأنهم كانوا يقطنون مكة التي كانت مهوى العرب كلهم ، واعترف الجميع بفصاحتهم.

والعرب يعين بيان القصد واعرابه ، في مقابل الاعجمي الذي لا يفهم مراده ، سواء كان انساناً او حيوانا.ً

سبب الخلاف

ولكن لماذا – اذن- يختلف الناس فيه وهو عربيٌ فصيح؟

ذلك لأن العالم هو محل الامتحان ، فلا جبر في الدنيا ابداً ، اذ لا يقدر الكافر ان يحمل الناس على الكفر جبراً ، كما لا يجبر المؤمن الاخرين على الايمان ، فلكي يكون الامتحان محققاً لاغراضه الحكيمة ، لابد ان يكون الانسان حراً في تصرفاته كلها واختياراته جميعاً.

بل إن الله سبحانه يتيح الفرص – تحقيقاً لغرض الفتنة والامتحان – للمؤمن والكافر على السواء ، قال تعالى : [كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورا][3].

هدى وشفاء

[هُوَ لِلَّذينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ ]

الهداية المقصودة هي اراءة الطريق لا الايصال الى الهدف.

فالقرآن الكريم وسيلة للهداية وشفاء لما يعانيه الانسان من امراض ، وخصوصاً امراض القلب ، ولكن شريطة الايمان بالله سبحانه.

وهذا هو هدف المؤمن – بالله سبحانه وبرسله وكتبه-  ، من قرائة القرآن الكريم ، حيث يبغي الوصول الى الهداية ومعالجة مشاكله عبر آيات القرآن الكريم.

 

[وَ الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ في‏ آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ]

أما الكافر بالله وبما ارسل، فإنه لا ينتفع بهدى القرآن ، لأنه محرومٌ عن حاستي السمع والبصر نتيجة عدم ايمانهم ، الامر الذي يؤدي بهم الى :

[أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعيدٍ]

حيث يكون مثلهم ، مثل من يناد من مكانٍ بعيد فلا يسمع النداء الا بصورة مبهمة ، فلا يلتفت الى النداء ، وهكذا من حرم الايمان لا يلتفت الى هدى القرآن الكريم لوجود الثقل ( الوقر) في اذنه والعمى في عينه.

[وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فيهِ ]

ليس القرآن الكريم بدعاً من الكتب ، بل الكتب السابقة قوبلت بالمعارضة وعدم الاتباع ، وكان السبب في عدم ايمانهم بالكتب السابقة مثل التوراة ، هو السبب ذاته في عدم اتباعهم لهدى القرآن الكريم ، المتمثل في الوقر في آذانهم والعمى في ابصارهم.

فالنبي موسى ، عليه السلام  ، جاء بكتابٍ الهي ، فيه هدىً ورحمة ، ولكنهم اختلفوا فيه ، لا لنقصٍ فيه – حاشاه – بل لخلل في انفسهم.

[وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ]

لما كانت حكمة خلق البشر امتحانهم ، فان الله سبحانه اتاح لهم الفرصة ، ومنحهم الحرية ، واتخذ على نفسه عهداً بعدم مؤاخذتهم سريعاً.

ولولا ذلك العهد ، لقضى بين الحق وبين تكذيبهم له ، وذلك بانزال العذاب الشديد عليهم.

[وَ إِنَّهُمْ لَفي‏ شَكٍّ مِنْهُ مُريبٍ]

الریب هو افضع الشك.

قالوا: المعنى أن العرب لا يزالون في شك من القرآن، وقال البعض: بل اليهود لا يزالون في شك من التوراة، ويبدو أن هذا أقرب إلى السياق الذي فيه تسلية للرسول ليتسق المعنى، هكذا: لا يحزنك- يا رسول الله- شك قومك في القرآن فبنو إسرائيل لا يزالون في شك من التوراة.

صفوة القول

  • القرآن الكريم يعالج مشاكل الانسان بواقعية ، ومنها وساوسه تجاه قضية الهدى والضلال.
  • الرد على الرسالات السماوية واحدة في جذورها ، وان اختلفت مظاهرها.
  • على الداعي الى الله ان يجد جذور تشكيكات المبطلين ويعالجها ، دون انبهارٍ بالكلام المنمق المستعمل عندهم.
  • القرآن الكريم كتابٌ فصلت اياته ، ويسّر للفهم ، الا ان العقد النفسية والعصبية تمنع الكافر من الاستماع اليه.
  • يهدف المؤمن من قرائته للقرآن ، العثور على سبيل النجاة ومعالجة الامراض النفسية ( والجسمية ) بالآيات الكريمة.
  • مواجهة الكفار للقرآن ليس لنقصٍ فيه – حاشاه – بل لعمى بصائرهم ووقر اذانهم عن استماع الحق ، الامر الذي ادّى الى كفر اسلافهم بالكتب السماوية الاخرى.
  • سبقت كلمة الرب سبحانه على عدم مؤاخذة الكافر بمجرد كفره ، واتاحة الفرصة له في الحياة الدنيا، ولولا ذلك لما امهل كافراً يكفر بآيات الله سبحانه.ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] سورة آل عمران :الاية 99

[2] الاختصاص : ص 178

[3] سورة الاسراء: الاية 20