
تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (فصلت) شهر رمضان المبارك / 1436 هـ – (الدرس الخامس والعشرون)
05 Jun 2023تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة فصلت (حم سجدة).
شهر رمضان المبارك / 1436
بسم الله الرحمن الرحيم
[ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ يَوْمَ يُناديهِمْ أَيْنَ شُرَكائي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهيدٍ (47) وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَ ظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحيصٍ (48)]
آمنا بالله ؛ صدق الله العلي العظيم
ثمة بصيرة لابد ان يعيها الانسان ، بل وتترسخ في ذهنه ووجدانه ، ومن اجل ترسيخها اكدت الايات القرآنية عليها في كثير من مواضع القرآن ، بل إن القرآن من اوله الى اخره يؤكد عليها صراحةً او اشارة ، وهي بصيرة ” مسؤولية الانسان في هذه الحياة”.
وتعني هذه الفكرة ( المسؤولية) أن عمل الانسان يعود اليه هو بذاته ، شاء ذلك أم أبى ، سواء طالت فترة العود ام قصرت.
اما الغفلة عن هذه الحقيقة او تغافلها يعتبر جذر تسافل الانسان وفساده في الجانب الاخلاقي ، فالانحراف والتسافل يبدأ من لحظة الغفلة عن بصيرة المسؤولية.
وسياق هذه الآيات المباركة – كما يبدو- بصدد بيان ان افعال كل انسان تعود اليه ، فلا يؤخذ البريء بجناية الجاني ، وإن حدث ذلك في بعض الأحيان فسوف يكشف أمر الجاني في نهاية المطاف – إن لم يكن في الدنيا ففي الاخرة – ويعاقب على فعله.
غفلة الانسان عن المسؤولية
ولكن ما هي المشكلة لدى الكثير من الناس التي تمنعنهم من قبول هذه الحقيقة وادراكها ، وتحويلها الى سلوك عملي في حياتهم؟
اولاً: ظن الانسان بأن افعاله تخفى عن الاخرين ، فما دام فعله مستوراً فما المانع من القيام به؟ الا ان علم الله سبحانه محيطٌ بما يصنع الانسان ، حيث لا يعزب عن علمه مثقال حبة في السماء و الأرض، وهو الذي يحاسب الانسان على افعاله ويحاسبه ، وليس الناس الذين اخفى عنهم اعماله.
ثانياً: توهم الإنسان بوجود شركاء وانداد ينقذونه من مغبة افعاله الخاطئة وانحرافاته .. وقد تشبث الانسان في تاريخه باشياء مختلفة من اجل الهدف ذاته ، فعبدوا الحجر والشجر وخضعوا الشمس والقمر حتى وصل بهم الأمر الى جعل النبي عيسى ، عليه السلام ، منقذاً لهم ومتحملاً مسؤولية اخطائهم وذنوبهم ، فعبدوه من دون الله واتخذوه شريكاً مع الله سبحانه ، قال تعالى : [وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُوني وَ أُمِّيَ إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما في نَفْسي وَ لا أَعْلَمُ ما في نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوب][1].
وفي القيامة تسقط كل الشركاء من دون الله ، ويضيعوا عمن اتخذهم ارباباً من دون الله سبحانه.
تقبل المسؤولية.. الحل الامثل
وللنجاة من هذا المصير الأسود ، على الانسان ان يقرّ بمسؤوليته عن نفسه بكل شجاعة ، ويتقبل اخطاءه ويعترف بها ، ليقدر على اصلاحه ، فيحاسب نفسه بشجاعة ويحاكمها دون تبرير ، فيعترف بالخطأ.
والمذنب الذي يتوب الى الله سبحانه ولا يقرّ بانه مذنب ، لا يغفر له الله ، لأن من شروط غفران الذنب اعتراف الانسان بأنه مذنب واقراره بذلك ، وهذه الحالة بحاجة الى شجاعة ونفسية عالية للانسان لتؤهله لدخول الجنة ، ” فالجنة حظيرةٌ للاسود ، لا مربض للاغنام”.
[ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ]
ما يعمله الانسان من خير ، فلا يعمله للأخرين ، وانما يعمله لنفسه ، لأنه هو الذي يرى نتاج عمله الصالح عاجلاً او آجلاً ، فمن يتصدق على الفقير يقدم الخير لنفسه لا الى الفقير ، وكذلك من يجاهد ، فهو ينتفع بجاهده في المرتبة الاولى ، قال تعالى : [وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمين][2].
[وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ]
والعكس بالعكس أيضاً ، فاسائة الانسان ترتد اليه هو ، ولا يتضرر بعمله السيء احدٌ مثله.
[وَ ما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبيدِ]
الصالح والفاسد يرى آثار عمله ونتائجها ، وذلك لأن الله سبحانه لا يظلم أحداً.
وقد تطرق المفسرون لموضوع في هذه الاية عن مجيء لفظة الظلم بصيغة مبالغة ونفيها ، والمعلوم ان نفي صيغة المبالغة يثبت الاصل مع نفي المبالغة ، فالقول ان فلاناً ليس بأكّال ، يعني انه يأكل ولكنه ليس مكثاراً في الاكل . وهل يعني ذلك ان شيئاً من الظلم يكون في فعل الله ؟
كلا؛ سبحانه عن ذلك ، انما ذلك للاشارة الى ان الله سبحانه لو كان حكمه على غير مبنى العدالة والحكمة لكان ظلّاماً ، لأن كل ظلمٍ كان يحدث في الكون لكان ينسب الى الله سبحانه.
وقد حاول البعض أن ينسبوا الظلم الى الله سبحانه ، عبر نظريات منحرفة مثل نظرية الجبر ، فيتهموا الرب سبحانه بأنه ظلّام لعبيده ، وهنا نفيٌ لهذه النسبة ، فهو العادل الذي لا ظلم في حكمه وقضائه و ” إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى الظُّلْمِ الضَّعِيفُ، وَ قَدْ تَعَالَيْتَ- يَا إِلَهِي- عَنْ ذَلِكَ عُلُوّاً كَبِيرا” [3]كما يقول الإمام زين العابدين ، عليه السلام.
[إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ]
سل من شئت عن موعد قيام الساعة ، فسينبئك بجهله بها ، وان علمها عند الله سبحانه وحده ، لا يجليها الى وقتها ، فهو علمٌ استأثر به الله لنفسه ، ولم يخرج منه لأحدٍ من عباده ، وفي لحظةٍ تقوم الساعة ، سواء بالنسبة للفرد ، لأن من مات فقد قامت قيامته ، او بالنسبة لجميع الخلائق ( اي يوم الحساب الاكبر).
[وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ]
حقائقٌ ثلاث يبينها الرب سبحانه في جملة واحدة:
الاولى : حاجة الانسان الى الطعام ، والتي يوفرها له الرب من خلال الثمر بشكل اساسي ، وذلك لا يكون الا بعلمه ، والباء ليست للمعية ، بل سببية ، اي انها تكون بعلمه وارادته.
والاكمام هي غلاف الثمرة الذي تخرج منها ، فكل ثمرة تخرج من غلافٍ خاصٍ بها ، وقد لا تخرج بأن يكون الغلاف خاوياً ، ولا يعلم ذلك الا الله سبحانه وتعالى.
الثانية: حمل الانثى ( عموم الانثى) يكون بعلم الله سبحانه.
هل تحمل هذه الأنثى أم لا، و ماذا تحمل؟ أنثى أم ذكر؟ و هل يولد حمله سويّا، و ما هي انعكاسات الطبيعة على جسده و نفسه؟ كل ذلك يردّ علمه الى اللّه.
الثالثة: بالرغم من وجود الحمل ، الا ان كثيراً منها لا تستمر وتنتهي بالسقط والاجهاض ، إن ذلك ايضاً بعلمه سبحانه وتعالى.
وبذلك نستفيد ، ان علم الآخرة وعلم الدنيا ، كله عند الله سبحانه وتعالى ، وكذلك بيده كل شؤونها وامورها.
[وَ يَوْمَ يُناديهِمْ أَيْنَ شُرَكائي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهيدٍ]
النداء هو رفع الصوت فی الکلام ، وسببه اما لبعد المستمع ، او ارادة المتحدث تقريعه واهانته ، والكفار في القيامة بعيدون عن رحمة الله ويستحقون تقريع الرب ، فيًسئَلون عن شركائهم الذين تشبثوا بهم.
ولما لم يجدوهم هناك ، يردون قائلين (آذَنَّاكَ) ای يعلنون إعلانا: و اللّه لا ندري أين الشركاء، و لا ندري أين ولّوا.
فليس منهم من لديه علماً باحدٍ من الشركاء ، فلم يشهدوهم ابداً.
[وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَ ظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحيصٍ]
غاب الشركاء عن المشركين في ساحة المحشر، فكلما اتخذوه من دون الله وعلقّوا به الامال للهروب من المسؤولية ، ضلّ عنهم هناك.
وحينئذٍ ظنوا بعدم وجود خلاصٍ لهم ، والظن في القرآن ظنان ، ظن يقين ، وظن جهل ، وهؤلاء تيقنوا بعدم وجود محيصٍ لهم؟ فما هو المحيص؟
المحيص ( من حاص عنه حيصاً) اي حاد عنه وتحرك ، ويقال للطير الذي يفسح لنفسه مجالاً في التراب انه حاص ، ولكن حين يحاول الطير ذاته فسح المجال في الحجر فانه لا يجد لنفسه محيصاً.
هكذا هم المشركون الذين تهربوا من تحمل المسؤولية وحاولوا القائها على الشركاء من دون الله ، حيث لا يجدون لأنفسهم فسحة في نار جهنم.
” على المؤمن ان يعي بأنه قد تحمل مسؤولية نفسه ، فلا يخسرها باضاعة الفرص ، ولابد ان يحدد لحياته هدفاً نافعاً ، بان يجعل له اثراً يبقى بعد رحيله من الدنيا ، مثل اعمال الخير التي لا ينتفع بها الا هو.
صفوة القول
- تعني ( المسؤولية) ان عمل الانسان يعود اليه ، شاء ذلك ام ابى.
- الغفلة عن المسؤولية او التغافل عنها جذر الانحطاط الاخلاقي للبشرية.
- يخفي الانسان اعماله السيئة عن الناس لكيلا يتحمل مسؤوليتها ، ولكن الله سبحانه بعمله عليمٌ خبير ، وهو الذي يحاسبه عليها.
- يتشبث المشرك بالشركاء متوهماً تخليصهم اياه من جزاء اعماله الفاسدة.
- للنجاة من الخسارة في القيامة على الانسان ان يقر بمسؤوليته وبكل شجاعة.
- علم الدنيا والاخرة عند الله ، وبيده كل شؤونهما.
- لما يضل الشريك عن المشرك ، تتلاشى آماله بالمنقذ ويواجه حقيقة العذاب الاليم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة المائدة : الاية 116
[2] سورة العنكبوت: الاية 6
[3] الصحیفة السجادية : من دعائه عليه السلام يوم الاضحى ويوم الجمعة.