
تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (فصلت) شهر رمضان المبارك / 1436 هـ – (الدرس السابع والعشرون)
05 Jun 2023تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة فصلت (حم سجدة).
شهر رمضان المبارك / 1436
الدرس السابع والعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
[قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ في شِقاقٍ بَعيدٍ (52) سَنُريهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ في أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ في مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحيطٌ (54)]
آمنا بالله ؛ صدق الله العلي العظيم
“كان الحديث في الآيات السابقة عن معرفة الانسان لذاته ، تلك المعرفة التي بها يتمكن من الهيمنة على نفسه الأمارة بالسوء ، اليست النفس أعدى اعداء الانسان ؟ فكيف – اذاً – يتمكن من محاربة هذا العدو من دون معرفته؟”
الانسان و الاحتياط
بطبيعته يحتاط الانسان في حياته وسلوكياته ، متقيّاً المخاطر والمهالك ، فهو يفضل سلوك دربٍ طويل مؤمّن على الخوض في طريقٍ قصير يحتمل فيه الخطر ، فهو يترك ما يحتمل فيه الخطورة على نفسه او ماله او اهله ، وكما في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين ، عليه السلام : ” دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُك”[1].
وبطبعه – ايضاً- يهتم الانسان بدفع الضرر عن نفسه ، اكثر من اهتمامه بجلب المنفعة اليها ، فلو قيل له ان العمل الفلاني يحتمل فيه النجاح بنسبة تسعين في المئة ، فإنه قد لا يقدم عليه ، بل ينتظر ارتفاع نسبة النجاح الى المائة في المائة ، ولكنه يترك عملاً لو كانت نسبة الخطر عليه او على ماله بنسبة خمسين بالمائة.
وكلما كان الخطر اعظم ، اكتفى الانسان بنسبة اقل لاجتنابه والابتعاد عنه ..
وعذاب جهنم يستدعي الهروب منه ، حتى لو كانت نسبة وجوده فيها ضئيلة جداً ، لأن الخطر عظيم ، فلا يمر عنها مرور الكرام ، بل يحسب لها كل حساب..
فليست مخاوف الصديقين من النار مخاوف اعتباطية ، بل هي متوافقة مع العقل والوجدان ، كما كان ذلك عند أمير المؤمنين ، عليه السلام ، الذي لم يكن يفتأ يذكر الآخرة ويسأل الله النجاة من العذاب، حتى روي ان اخاه عقيلاً طلب منه زيادةً في العطاء بغير حقٍ ، فأحمى ، عليه السلام ، حديدةً حتى احمرّت ، فادناها من يد عقيل ولما احسّ عقيل بحرارة الحديدة صرخ قائلاً : اتحرقني بالنار يا علي ؟
فقال له ، عليه السلام : ” ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِمَدْعَبِهِ وَ تَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا مِنْ غَضَبِهِ أَ تَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَ لَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى”[2].
وفي مقابل هذه الرؤية هي رؤية اللامبالاة تجاه الحساب والعقاب ، والتي تحاول تمييع الحدود بين الحلال والحرام والموافقة بينهما ، رغبةً في الحصول على المزيد من حطام الدنيا.
والرب سبحانه يحذّر الانسان من عذابه ، ويدعوه الى ” احتمال” وجود نارٍ وحميم ، ليأخذ احتياطاته اللازمة لعدم دخولها ، واكتساب الامن بعد الموت ، وإن لم يكن احتماله في محله ( اي لو فرضنا عدم وجود نارٍ وعذاب في القيامة) لما كان خاسراً ، وكما قال الإمام الصادق ، عليه السلام ، لإبن ابي العوجاء حين التقاه بمكة واراد الجدال معه بشأن وجود الخالق والقيامة:.. فَقَالَ لَهُ الْعَالِمُ علیه السلام مَا جَاءَ بِكَ إِلَى هَذَا الْمَوْضِع؟ِ فَقَالَ عَادَةُ الْجَسَدِ وَ سُنَّةُ الْبَلَدِ وَ لِنَنْظُرَ مَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْجُنُونِ وَ الْحَلْقِ وَ رَمْيِ الْحِجَارَةِ .
فَقَالَ لَهُ الْعَالِمُ علیه السلام: أَنْتَ بَعْدُ عَلَى عُتُوِّكَ وَ ضَلَالِكَ يَا عَبْدَ الْكَرِيمِ ” فَذَهَبَ يَتَكَلَّمُ ..
فَقَالَ لَهُ ، عليه السلام: لا جِدالَ فِي الْحَجِ وَ نَفَضَ رِدَاءَهُ مِنْ يَدِهِ وَ قَالَ إِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ وَ لَيْسَ كَمَا تَقُولُ نَجَوْنَا وَ نَجَوْتَ وَ إِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا نَقُولُ وَ هُوَ كَمَا نَقُولُ نَجَوْنَا وَ هَلَكْتَ. فَأَقْبَلَ عَبْدُ الْكَرِيمِ عَلَى مَنْ مَعَه فَقَالَ وَجَدْتُ فِي قَلْبِي حَزَازَةً فَرُدُّونِي فَرَدُّوهُ فَمَاتَ لَا رَحِمَهُ اللَّهُ.[3]
[قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ]
انها دعوة الى التفكر الى احتمالية وجود العذاب الالهي ، والرؤية هنا ليست بمعنى رؤية العين ، بل رؤية العقل والقلب . فليفترض الكافر – ولو مجرد افتراض- ان ما جاء به الانبياء هو من عند الله حقاً ، ثم كفروا به ، اليس يكون ذلك ردّاً على الله سبحانه.
[مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ في شِقاقٍ بَعيدٍ]
نتیجة التكذيب ستكون الشقاق البعيد ، أي الانحراف الكبير عن الجادة ، فيكون السالك فيه اضلّ الناس.
إن مجرد احتمال هذا الامر يحمل العاقل على درء المخاطر عن نفسه عبر التصديق ، فكيف اذا كان الأمر يقينياً وثابتاً ببراهين وايات ، ومنها ما ستبينه الاية التالية.
وليست الآية مختصةً بالكافر البعيد ، بل هي تحذّر كل انسان ، وحتى المؤمن ، من الانحراف عن الحق ، ذلك لأن كل انسان معرّض لخطر التكذيب والكفر ، ذلك الخطر الذي اصاب بعضاً من خلّص العباد حيث حادوا عن الجادة فكانوا اضل سبيلاً.
وعلينا كذلك ؛ ان نجعل الآية نصب اعيننا لئلا تؤثر فينا همزات الشياطين فنسقط في وادي الضلالة السحيق.
ايقاظ الغافلين
ارأيت كيف لو اردت ايقاض نائمٍ غارقٍ في نومه ؛ فانك تحتاج الى مناداته المرة بعد الاخرى ، واستعمال اساليب مختلفة حتى تشعره بأنه يغط في نوم عميق ولابد له ان يخرج منه بالاستيقاظ.
كذلك هو الانسان في الدنيا ، حيث يغط في نوم الغفلة العميق ، متشبثاً باحلام اليقظة باللعب واللهو ، وهنا يأتي الوحي لينبهه المرة بعد الاخرى ويوقظه من غفلته ، وبعد الاساليب المختلفة والادوات المتعددة ، يبقى الانسان هو المسؤول عن مهمة الاستيقاظ لا غيره.
[سَنُريهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ في أَنْفُسِهِمْ ]
الرب سبحانه يقوم بارائة الآيات المختلفة للانسان ، ويظهرها له بشكل جليّ لا غبار عليه ، فما هي تلك الآيات؟
اولاً: الآيات الافاقية :
- ففي مختلف الآفاق دلائل قدرة الله وصنعه وتوحيده ، فالقوانين التي حكمّها الرب على الخليقة وأسماها سننه ، بحيث تدور الخليقة بدقة كاملة وفقها ، بدءاً من اصغر ذرة وانتهاءاً بأكبر مجرة ، كلها آيات تدل على الله سبحانه.
- ومن الآيات الآفاقية – ايضاً- النعم المختلفة ، مثل الشمس والقمر والنجوم و.. تلك النعم العظيمة ، التي ينظر المؤمن اليها نظرة عبورية ، ليصل الى معرفة الله سبحانه وتعالى ، حتى يكون الصانع اجلى هو الدال بالدليل عليه ، وكما في دعاء الامام الحسين ، عليه السلام ، بعرفة : ” أَ يَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ مَتَى غِبْتَ حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ وَ مَتَى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الْآثَارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ عَمِيَتْ عَيْنٌ لَا تَرَاكَ عَلَيْهَا رَقِيبا”[4].
- ومن تلك الآيات ، التاريخ البشري ، الذي كان مسرحاً لتطبيق سنن الرب عزوجل على الخليقة من خلال بيان قصصهم وبيان كيفية انزال العذاب المناسب مع انحرافهم.
ثانياً: الآيات الانفسية
- فحين تنقطع السبل بالانسان ، ولا يدري أين يولّي وجهه ، حينذاك يتعلق قلبه بالله سبحانه ، سواء كان موحدّاً مؤمناً قبل ذلك ، ام لم يكن كذلك.
ويتم الرب حجته على الانسان بابتلاءه بمشاكل يعجز الخلق عن حلّه لها ، فينقطع عنهم ويتأله الى الله ليقضي حاجته ، انها آية خالقية الله ووحدانيته ، وقد روي ان رجلاً سأل الإمام الصادق ، عليه السلام قائلاً: ” يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى اللَّهِ مَا هُوَ فَقَدْ أَكْثَرَ عَلَيَّ الْمُجَادِلُونَ وَ حَيَّرُونِي.
فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَلْ رَكِبْتَ سَفِينَةً قَطُّ؟
قَالَ: نَعَمْ .
قَالَ: فَهَلْ كُسِرَ بِكَ حَيْثُ لَا سَفِينَةَ تُنْجِيكَ وَ لَا سِبَاحَةَ تُغْنِيكَ.
قَالَ: نَعَمْ .
قَالَ فَهَلْ تَعَلَّقَ قَلْبُكَ هُنَالِكَ أَنَّ شَيْئاً مِنَ الْأَشْيَاءِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُخَلِّصَكَ مِنْ وَرْطَتِكَ؟
فَقَالَ نَعَمْ.
فقَالَ الصَّادِقُ ، عليه السلام، : فَذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ اللَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الْإِنْجَاءِ حَيْثُ لَا مُنْجِيَ وَ عَلَى الْإِغَاثَةِ حَيْثُ لَا مُغِيث..”.
- وكل عضوٍ من اعضاء الانسان يعد آية من آيات الله سبحانه الانفسية ، حيث يستشعر الانسان عجزه عن صنع مثلها او شفاء مرضها او جبر كسرها او.. الا بقدرة صانعها القدير العزيز ،سبحانه.
[حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ]
الهدف من كل تلك الآيات هو ايصال الانسان الى معرفة الحق ، سواء اقرّ به وآمن ، او جحد واستكبر.
[أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهيدٌ]
الله سبحانه ؛ هو الشهيد على كل شيء وشاهد على الحقائق جميعاً ، بل بشهادته لها تكون الامور حقة ، اذ لا حول ولا قوة الا به سبحانه ، ولا يكون لشيء وجودٌ او ظهورٌ الا به تعالى ، حتى كان كل شيء قائم به.
عقبة الشك
في الحديث عن عقبات طريق الاستقامة ذكرنا الشك والريب ، وههنا الآية المباركة تؤكد على ان اكثر الناس يترددون في ريبهم وشكهم.
[أَلا إِنَّهُمْ في مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ ]
رغم كل الآيات في الآفاق والانفس ، الا ان الشك يبقى مهيمناً على قلوب اكثر الناس ، فهم لعدم ايمانهم بوجود القيامة يبتعدون عن الله سبحانه وتعالى.
إنّ الريب في يوم الآخرة و بالتالي في المسؤولية يبرّر للنفس التهاون، و إذا استبدّ بها التهاون لم يهتم بالحق، و لم يستمع الى داعية، و لم ينتفع بآيات اللّه سبحانه.
[أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحيطٌ]
تشكيكهم بالقيامة لا يغير من الواقع شيئاً ، فالله سبحانه هو المحيط بهم – وبجميع الخلق- احاطة كاملة ، و سوف لا يفلتون من قبضته، لأنّه لا منجى منه إلّا إليه، و لا مهرب من سطواته.
صفوة القول
- من طبيعة الانسان توخي الحيطة من الاخطار ، فهو يهتم بدفع الاخطار اكثر من جلب المنافع لنفسه.
- مجرد الاحتمال بوجود عذاب جهنم ، يستدعي ان يحسب لها الانسان الف حساب ويعمل للخلاص منها ، كيف وهي حقيقة ثابتة؟
- یغط الناس في الدنيا في نوم الغفلة ، ويأتي الوحي لايقاظهم المرة تلو الأخرى ، وبعد ذلك يكون الانسان هو المسؤول عن ايقاظ نفسه.
- الآيات الافاقية هي كل آية في الوجود تدل على الله سبحانه ، اما الانفسية فهي الايات التي يجدها الانسان في جسمه او روحه.
- جعل الآيات المختلفة للانسان بهدف ايقاضه من نوم الغفلة واكتشاف الحق امامه.
- إنّ الريب في يوم الآخرة و بالتالي في المسؤولية يبرّر للنفس التهاون، و إذا استبدّ بها التهاون لم يهتم بالحق، و لم يستمع الى داعية، و لم ينتفع بآيات اللّه سبحانه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] غرر الحکم ودرر الكلم : ص 818
[2] الآمالی ( للصدوق) : ص 622
[3] الکافی : ج1 ،ص 78
[4] اقبال الاعمال : ج1،ص 349