Search Website

ميراث عاشوراء (2) – الامام الحسين (ع) مدرسة الاصلاح

ميراث عاشوراء (2) – الامام الحسين (ع) مدرسة الاصلاح

بسم الله الرحمن الرحيم

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَليلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَ اتَّبَعَ الَّذينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فيهِ وَ كانُوا مُجْرِمين‏ * وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى‏ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُون‏)[1]

قال سيد الشهداء عليه السلام، في باكورة ثورته المجيدة، قبل خروجه الى العراق: ” وَ أَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَ لَا بَطِراً وَ لَا مُفْسِداً وَ لَا ظَالِماً وَ إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ‏ الْإِصْلَاحِ‏ فِي أُمَّةِ جَدِّي صلى الله عليه واله أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَ أَبِي‏”[2]

 تعيش المجتمعات البشرية في معادلة حرجة بين دعاة الاصلاح وبين عوامل الفساد والافساد، وبالرغم من ان هذه المعادلة قلّما تترجح لمصلحة طرف دون اخر، الا انه كلما هيمنت عوامل الفساد على المجتمعات انهارت، وكان مصيرها مصير قوم لوط او عاد او ثمود، او قوم النبي صالح، او فراعنة مصر، او فراعنة العراق في زمن النبي نوح على نبينا واله وعليه السلام.

نهاية المجتمعات التي تستولي عليها عوامل الافساد هو الدمار، تدمر نفسها بنفسها، ويدمرها الرب بطغيانها، فقد قال ربنا سبحانه: (فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها)، فقد يجعل الله المدن الكبار ارضاً خاوية ولا يخاف عقبى ذلك.

هناك خبر قد انتشر اليوم، ان عالمين فلكيين جاءوا بخبر جديد، مفاده ان سبحاً سوداء بدأت تخرج من الثقوب السوداء المنتشره في الفضاوات الخارجية (والتي تسمى مقبرةً للشموس نتيجة جاذبيتها الهائلة الساحبه للاجرام الكبيرة)، و كما يقول العالمان، ان هذه السحب اقوى من هذه الثقوب لأنها تخرج منها على عكس كل الاجرام، وعرض السحابة يبلغ ستة عشر مليون كيلو متر، فضلاً عن طولها.

و الضجة التي احد هذا النبأ، بسبب قول العلماء انها ستصل الى منظومتنا الشمسية، بعد ثمانية اشهر من اليوم، وبوصولها فلن تبقى شمس ولا قمر ولا ارض.

اقول: بالرغم من انا لا نعوّل على انباء كهذه، الا ان الله سبحانه لو اراد ان يهلك الناس، لكان سهلاً يسيراً عليها ان يقضي على العالم ولا يسأله احدٌ عن فعله.

اما اذا تغيّرت المعادلة، وهيمن الصالحون على الارض او منطقة من مناطقها، لأنزلت السماء بركاتها واخرجت الارض ثمارها، واكل الناس من فوقهم ومن تحت ارجلهم.

وبين هذا وذاك، يتراوح الناس، وكلما ازدادت هيمنة المصلحين انحسرت قوى الفساد في الارض.

في نهايات سورة هود، تذكيرٌ بهذه الحقيقة، حيث يقول ربنا سبحانه: { وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى‏ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُون‏}[3].

ليس الحديث عن كل المجتمع، اذ لو كان الكل صالحاً لما كانت حاجة للحديث عن الاهلاك والعذاب، بل الكلام عن الطابع العام في المجتمع، حيث يقوم المصلحون بدورهم في الاصلاح في الارض ودرء الفساد وعوامله، قال سبحانه: { فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ}.

البقية الصالحة

يبدو لي ان الامام الحسين عليه السلام، كان قد قدّر له، وامر بأن يقوم بانشاء البقية الصالحة وتربيتها، وقد رسم النبي صلى الله عليه واله هذه الخريطة من ذي قبل، وبيّن ان خارطة الاصلاح بحاجة الى دماء زاكية تسقي جذوره الطيبة، فقال صلى الله عليه واله: “ حُسَيْنٌ‏ مِنِّي‏ وَ أَنَا مِنْ حُسَيْنٍ أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْناً..”[4]

والسؤال هنا، هل فشل الامام الحسين في مهمته، التي قال عنها: ” وَ إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ‏ الْإِصْلَاحِ‏ فِي أُمَّةِ جَدِّي”؟

ربما كان البعض يتصور في بداية النهضة المباركة، ان الامام عليه السلام قد فشل بعد ان استشهد هو واصحابه واهل بيته، ولكن العالم يكتشف يوماً بعد يوم نجاح الامام، عليه السلام، في حركته ؛ بل حاشا لله ان يأمر احداً ليتحرك تجاه مشروعٍ كبير كهذا، ثم يدعه يفشل، وتنتهي الحركة بمجرد انتهاء حياته.

بين سفينتي نجاة

معروفٌ ان الامام الحسين، عليه السلام، مصباح هدى، وسفينة نجاة، ولكن سفينة نجاته كانت تختلف عن سفينة النبي نوح عليه السلام، وكانت تلك هي الاخرى سفينةً للنجاة.

الا ان سفينة الامام الحسين اختلفت في اهدافها وخططها، فالنبي نوح، عليه السلام، حمل معه ثلّةً من المؤمنين لينقذهم من الهلاك بالعذاب الالهي ؛ اما الامام الحسين عليه السلام فقد استشهد هو واصحابه في كربلاء، فلم يبحثوا عن الحياة، بل عن الشهادة، ذلك لأن سفينة الامام اوسع، ومستمرة في طول الزمن، فلم تقتصر على طوفانٍ اجتاح المنطقة لأيام.

وقد خلق الامام الحسين عليه السلام بسفينته، تيار الاصلاح وحركة المصلحين، وكما ذكرنا سابقاً انه، عليه السلام، حلّ اعقد معادلة بين الموت والحياة، وبذلك تكونت في الأمة ثلّة مؤمنة، حملت راية الامام الحسين عليه السلام الاصلاحية، وحققت الاية الشريفة: { فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَليلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ}.

وسعى هؤلاء في الاصلاح وكانت النتيجة القريبة، ان الله سبحانه لا يعذب اهل الارض، فالمصلحون امانٌ لأهل الارض، وان انتهى حركة الاصلاح لأنزل الله العذاب على اهل الارض.

ان حَمَلة هذه الراية المقدسة اليوم، هم من يسعون في الارض اصلاحاً، و اولوا بقية اليوم هم مراجعنا العظام والعلماء والخطباء والهيئات الحسينية والزائرين للحسين (ع).

ونحن اليوم، لسنا بصدد ايجاد هذه الثلة، لأنها موجودةٌ بالفعل في اصقاع الارض،وقد ركبوا سفينة الامام الحسين، ويحملون رايته، لأنك تجد الملايين يهتفون بأسمه عليه السلام في كل زمانٍ ومكان.

لكننا اليوم بصدد الحديث عن الامة، وان تقنع هذه الثلة الامةَ باهداف الامام الحسين عليه السلام، ان هذا الامر مسؤوليتنا نحن.

ولتوضيح هذه النقطة المهمة جداً لابد ان اقول، ان الجاهلية كانت تعتمد على ركائز فكرية مترسخة في اذهان ابناءها، ونقرأ هذه الركائز في اشعارهم وسلوكياتهم التي لولا مجيء الاسلام، لكانت العرب تبيد من حينها..

جاء الاسلام بعملٍ صاعق وسريع، جاء بموجة هادرة يفوق تأثيرها كل زلزال وسيل في العالم، حيث جاء النبي صلى الله عليه واله، وهدم ذلك الكيان الجاهلي بقوة الله سبحانه وتعالى.

وبالرغم من ان كيان هؤلاء انهدم، الا انّ الجذور بقيت متعشعشة في قلوب المنافقين المتمثلين ببني امية، و لا نجانب الحق ان قلنا انهم كانوا السبب في استشهاد النبي صلى الله عليه واله، اثر سمٍّ دسوه اليه،

وكان على الامام علي عليه السلام وابناءه الطاهرين، ان يكملوا مسيرة رسول الله صلى الله عليه واله، الذي قاتل على التنزيل، فكان عليهم القتال على التأويل، فقد قال رسول الله، صلى الله عليه واله: ” أَنَا أُقَاتِلُ‏ عَلَى التَّنْزِيلِ‏ وَ عَلِيٌّ يُقَاتِلُ عَلَى التَّأْوِيل‏”[5].

وراح بنو امية يعيدون تلك الثقافة، التي تتمثل في سلب الكرامة الانسانية من ابناء الامة، فكانوا يوحون للفرد انك تفتقد لاي قيمة كشخص، بل القيمة للعشيرة والقبيلة والمال والسلطة..

وبعبارة ؛ كانت ثقافتهم ثقافة تغيير قيمة الكرامة التي رسخّها القرآن الكريم، حيث قال ربنا: { وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَني‏ آدَم‏}[6]، وسلبه قيمة تحمل الامانة التي قال الله سبحانه: { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولا}[7]، واستبدالها بثقافاتهم الجاهلية.

وتعشعش تلك القيم في نفوس الكثير من ابناء الامة حتى اليوم، فظاهر الدين موجود من قرآن وعبادات و.. ولكنه مفرّغٌ من حقائقه. فصار الدين، حروفٌ بلا معاني، ورسومٌ بلا حقائق، وشعائر بلا لباب.

ومن هنا، فلابد ان نردم هذه الفجوة الحاصلة بين ماهو دين، وبين ما يريد ان يجعله الامويون ديناً يدان به، والطغاة اليوم يرسخون ثقافات بني امية في الامم، رغم انهم يلعنونهم في سرهم، لأن افكار بني امية تجعل الطغاة يسيطرون على الامم ويجثمون على صدورهم.

علينا ان نعي ان الفكر التبريري، والفكر اللا مسؤول، والفكر الذي يهدم ثقة الانسان بنفسه، كل هذه الافكار، هي افكار بني امية، وبقيت تنتشر في الامم، والى اليوم، حتى ان حكم بني العباس لم يكن الا هجيناً من حكم بني امية وافكارهم.

الحركات النهضوية في العالم الاسلامي

واذا درسنا تاريخ العالم الاسلامي خلال القرن الماضي، لوجدنا ان حركات كثيرة نهضت عند المذهب السني لاعادة روح الاسلام، ولكن الحركات تلك لم تكلل بالنجاح. فقد فشلت الحركات الاسلامية السنية من اندونيسيا الى مصر مروراً بالهند والعراق، لأن الامة تقاعست عنهم، وقالوا لهم (اذهب انت وربك فقاتلا)، لأن هناك في وسطهم من يثبط الامة ويدافع عن الظالمين.

الم تقرأ الامة القرآن الذي قال تعالى فيه: { وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُون‏}[8]، اولم يسمعوا قول النبي صلى الله عليه واله: ” كُلُّكُمْ‏ رَاعٍ‏ وَ كُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه‏” [9].

بلى، لقد سمعوها ووعوها، ولكن حليت الدنيا في اعينهم، و اثّرت فيهم الثقافة الشريحية، التي تثبط الامة عن التحرك.

كلمة الى الشريحيين

وهنا اوجه كلمتي لمن تنظر اليهم الامة على انهم العلماء المدافعون عن حقوقهم، والحال انهم يقومون بوأد حركات الامة، اقول لهم، لماذا تناهضون الحركات الرسالية؟ لماذا تسجلون اسماءكم في سجل بني امية، وسجل الطغاة، خشية الموت او التضييق؟

بعض العلماء يدافعون عن انفسهم او يحاولون ان يحفظوا انفسهم فيدافعون عن الطغاة والظالمين، فيعطون الطغاة فرصة لضرب المجاهدين والقسوة عليهم.

ان من يدافع عن الظالم سيحشر معه، فلا تهلكوا انفسكم بالدفاع عن الظلمة

مسؤوليتنا اليوم

اننا اليوم بحاجة الى تحويل الثقافة الحسينية الى ثقافة الامة، بعد ان صارت ثقافة النخبة من العلماء والرساليين والمجاهدين في سبيل الله.

لدينا اليوم قدرات هائلة للتواصل والتقدم، لابد ان نستغلها في بث الاهداف التي من اجلها ثار الامام الحسين عليه السلام في الامة.

واذا ما حمل المجتمع اهداف الامام الحسين عليه السلام ووعاها، فسيكون المنتصر في كل الافاق والاصعدة، ولنا نماذج من نجاح الامم التي تمسكت باهداب الثورة الحسينية كالثورة في ايران، والحركات المناهضة للظلم في جنوب لبنان، وكذلك العراق، الذي لولا تمسكه بالامام الحسين عليه السلام لكان ينهار امام مكائد الشرق والغرب.

ان الامة تعرفت الى الامام الحسين ونهضته، ولكننا بحاجة الى المزيد، حيث يعي الجميع نهضة سيد الشهداء، من رجال ونساء، وشيوخ وشباب واشبال، يعرفوا جميعاً اهداف الامام الحسين عليه السلام.

ان يعرف الجميع معنى (يا ليتنا كنا معكم)، و (سلمٌ لمن سالمكم) ويعرفوا حقيقة (الولاية).. اذا فهمت الامة او بعض ابناء الامة هذه الحقائق، ستكون امةً منتصرة على جميع الاصعدة.

ولا يخفى على الدارسين للتاريخ، ان نهضة الامة، بدأت من شخص رسول الله صلى الله عليه واله، ومن بعده اهل بيته عليهم السلام، ومن بعدهم التابعون لهم صلوات الله عليهم، وكان التابعون (الشيعة) هم المحركون لعجلة حركة الامة الاسلامية.

وهذه المعادلة لا زالت قائمة، فاذا ما حمل ابناء الامة راية الامام الحسين عليه السلام في حركتهم، فسوف تنهض الامة بجميع فئاتها واطيافها، ويطردوا الشاذّ عن المسيرة الربانية.

نسأل الله ان يوفقنا لذلك، انه ولي التوفيق.

الشعائر الحسينية بين الحكمة والحماس

ان الشعائر الحسينية جميلة ولابد منها، وقد اثار الامام الحسين، عليه السلام، زوبعة من الحماس في الامة، و الحماس الحسيني بحاجة الى حكمة.. العاطفة بحاجة الى موازنة من التعقل.

ودور العلماء ان يذكروا الناس باهداف النهضة الحسينية، ويزودوهم بالحكمة، فقد كان الامام الحسين عليه السلام ثورة ناطقة حيث نطق باهدافه قبل خروجه من المدينة وبعدها من مكة، و نطق بها يوم عاشوراء، و نطقت بها السيدة زينب سلام الله عليها بعد الامام الحسين، وكذلك نطق بها الامام زين العابدين عليه السلام.

علينا ان ندعوا الامة الى القرآن الكريم والعمل به، الم يكن الامام الحسين قرآناً ناطقاً، واماماً ناطقاً بالقرآن في كل مكان وزمان، حتى عدّ احد المؤرخين اكثر من ثلاثين موضع تلا فيه رأس الامام الحسين ايات الكتاب وهو على رأس الرمح.


[1] هود: 116-117

[2] بحار الانوار: ج 44، ص 329

[3] هود: 117

[4] كامل الزيارات: ص 53

[5] الخصال: ج2، ص 650

[6] الاسراء: 70

[7] الاحزاب: 72

[8] الصافات: 24

[9] منية المريد: ص 381

استمع الى الكلمة الكاملة من هنا