Search Website

ميراث عاشوراء (3) – دور العلماء الربانيين في قيادة الامة

ميراث عاشوراء (3) – دور العلماء الربانيين في قيادة الامة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله سبحانه: [إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذينَ أَسْلَمُوا لِلَّذينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتي‏ ثَمَناً قَليلاً وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُون‏][1].

وقال ابو عبد الله الحسين بن علي، عليه وعلى جده وابيه، وامه واخيه، وذريته وبنيه، وشيعته ومواليه، الصلاة والسلام:”ثُمَ‏ أَنْتُمْ‏ أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ عِصَابَةٌ بِالْعِلْمِ‏ مَشْهُورَةٌ وَ بِالْخَيْرِ مَذْكُورَةٌ وَ بِالنَّصِيحَةِ مَعْرُوفَةٌ وَ بِاللَّهِ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ مَهَابَةٌ يَهَابُكُمُ الشَّرِيفُ وَ يُكْرِمُكُمُ الضَّعِيفُ وَ يُؤْثِرُكُمْ مَنْ لَا فَضْلَ لَكُمْ عَلَيْهِ وَ لَا يَدَ لَكُمْ عِنْدَهُ تَشْفَعُونَ فِي الْحَوَائِجِ إِذَا امْتَنَعَتْ مِنْ طُلَّابِهَا وَ تَمْشُونَ فِي الطَّرِيقِ بِهَيْبَةِ الْمُلُوكِ‏ وَ كَرَامَةِ الْأَكَابِرِ أَ لَيْسَ كُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا نِلْتُمُوهُ بِمَا يُرْجَى عِنْدَكُمْ مِنَ الْقِيَامِ بِحَقِّ اللَّهِ وَ إِنْ كُنْتُمْ عَنْ أَكْثَرِ حَقِّهِ تَقْصُرُونَ فَاسْتَخْفَفْتُمْ بِحَقِّ الْأَئِمَّةِ فَأَمَّا حَقَّ الضُّعَفَاءِ فَضَيَّعْتُمْ وَ أَمَّا حَقَّكُمْ بِزَعْمِكُمْ فَطَلَبْتُمْ فَلَا مَالًا بَذَلْتُمُوهُ وَ لَا نَفْساً خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِي خَلَقَهَا وَ لَا عَشِيرَةً عَادَيْتُمُوهَا فِي ذَاتِ اللَّهِ أَنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللَّهِ جَنَّتَهُ وَ مُجَاوَرَةَ رُسُلِهِ وَ أَمَاناً مِنْ عَذَابِهِ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُتَمَنُّونَ عَلَى اللَّهِ أَنْ تَحُلَّ بِكُمْ نَقِمَةٌ مِنْ نَقِمَاتِهِ لِأَنَّكُمْ بَلَغْتُمْ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ مَنْزِلَةً فُضِّلْتُمْ بِهَا وَ مَنْ يُعْرَفُ بِاللَّهِ لَا تُكْرِمُونَ وَ أَنْتُمْ بِاللَّهِ فِي عِبَادِهِ تُكْرَمُونَ وَ قَدْ تَرَوْنَ عُهُودَ اللَّهِ مَنْقُوضَةً فَلَا تَفْزَعُونَ وَ أَنْتُمْ لِبَعْضِ ذِمَمِ آبَائِكُمْ تَفْزَعُونَ وَ ذِمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ص مَحْقُورَةٌ وَ الْعُمْيُ وَ الْبُكْمُ وَ الزَّمْنَى فِي الْمَدَائِنِ مُهْمَلَةٌ لَا تُرْحَمُونَ وَ لَا فِي مَنْزِلَتِكُمْ تَعْمَلُونَ وَ لَا مَنْ عَمِلَ فِيهَا تُعِينُونَ‏ وَ بِالْإِدْهَانِ وَ الْمُصَانَعَةِ عِنْدَ الظَّلَمَةِ تَأْمَنُونَ كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النَّهْيِ وَ التَّنَاهِي وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ وَ أَنْتُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ مُصِيبَةً لِمَا غُلِبْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَنَازِلِ الْعُلَمَاءِ لَوْ كُنْتُمْ تَشْعُرُونَ‏ ذَلِكَ بِأَنَّ مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَ الْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ‏ الْأُمَنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَ حَرَامِه‏”[2].

دائماً ؛ هناك صراعٌ بين الحق والقوة، فمن الناس من يريد ان يصل الى اهدافه بالقوة، وهناك من يريد ان يصل الى اهدافه، لكن بالحق، والصراع الابدي هذا، بدأ من ابني ادم، اذ اراد احدهما ان يقتل الاخر، فقال له اخيه: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَني‏ ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمين‏)[3]، ولكن قابيل قام بقتل اخيه رغبة في الحصول على المنافع، فاصبح من النادمين.

لابد من قيادة

ولكل جبهة من هذين الجبهتين قيادة، فاذا كانت قيادة اصحاب المصالح والمطامع والبهرجة، هم الظلمة والطغاة، فإن قيادة الحق والعدل هم العلماء بالله، الامناء على حلاله وحرامه، يقول الامام، عليه السلام:”ذَلِكَ بِأَنَّ مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَ الْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ‏ الْأُمَنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَ حَرَامِه”. وكلمة الامام مفصلة ذكرت جزءاً منها.

إن قيام الامام الحيسن عليه السلام كان لتكريس دور العلماء في الامة، ذلك لان اية ثورة كان فيها (لا) و (نعم)، فلاءات ثورة الامام كانت: لا للظلم، لا للطغيان، لا للتعبية، لا لسحق الكرامة، لا لمحق الشريعة.

و كانت ثورته ( نعم) للفلاح والصلاح والاصلاح والنجاح، (نعم) للحق والخير، (نعم) للمثل العليا، (نعم) للقيم السامية.

وقد بيّن الامام هذا الـ (لا)، وهذا ( النعم ) بوضوح تام، في احاديثه قبل الثورة واثناءها، وبينته زينب وزين العابدين بعد شهادته عليه السلام.

ولو تأمل الواحد منا احاديث الامام عليه السلام تأمل دراية وفهم، لوجد ان كلماته تحمل القيم التي ارادها الامام الحسين للامة، فحين يقول للوليد:”أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنَّا أَهْلُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَ مَعْدِنُ الرِّسَالَةِ وَ مُخْتَلَفُ الْمَلَائِكَةِ وَ بِنَا فَتَحَ اللَّهُ وَ بِنَا خَتَمَ اللَّهُ وَ يَزِيدُ رَجُلٌ فَاسِقٌ شَارِبُ الْخَمْرِ قَاتِلُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ مُعْلِنٌ بِالْفِسْقِ وَ مِثْلِي‏ لَا يُبَايِعُ‏ مِثْلَه‏”[4].

فبعد ان أبان الامام مكانته، حيث هو من اهل بيت بهم بدأ الله وبهم يختم، لم يقل انه ( اي الامام عليه السلام ) لا يبايع يزيد، بل قال:”مثلي لا يبايع مثله”اي ان من هو في مكانة الامام الحسين، عليه السلام، او من يمثل خط ابي عبد الله الحسين من والياً للمؤمنين ونصرة الضعفاء، لا يجوز ان يبايع من هو يشابه يزيد في مكانته.

كانت هذه كلمته عليه السلام في المدينة، اما في كربلاء فقال:”أَلَا وَ إِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيَّ قَدْ تَرَكَنِي بَيْنَ‏ السِّلَّةِ وَ الذِّلَّةِ وَ هَيْهَاتَ لَهُ ذَلِكَ هَيْهَاتَ مِنِّي الذِّلَّةُ..”

ان هذا الحديث، يوضح ان بن زياد، كان هو الاخر – كأبيه – وليد سفاح، فلم يكن ابوه زياد وحده دعياً، حيث ان معاوية نسبه الى ابيه، ظلماً وزوراً، مخالفاً بذلك كل القيم والمبادئ والاعراف – حتى الجاهلية-، ليس زياد وحده، بل ابنه هو الاخر لم تكن امه شريفة، وولدته بغير نكاحٍ شرعي لذلك قال الامام”الدعي بن الدعي”. ترى، ان رجلاً كهذا في انحطاط نسبه، يطلب من ابن سيدة النساء ان يقوم بمبايعته !!

ومن ثم بيّن الامام سبب عدم بيعته ليزيد، ولا واليه، لأن الله ابى ذلك، قال:”أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ جُدُودٌ طَهُرَتْ وَ حُجُورٌ طَابَتْ أَنْ نُؤْثِرَ طَاعَةَ اللِّئَامِ عَلَى مَصَارِعِ الْكِرَام‏”[5].

الذي نمى في حجر طاهر، وكانت امه الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء سلام الله عليها، كيف يبايع مثل هذا الرجل التي كانت امه امرأة غير شريفة.

وهنا ايضاً ضرب الامام المثال، يعني: ان كل انسان حمي الانف، اصيل، طاهر المنبت، الذي له تاريخ وشرف، انه لا يضع يده في يد رجل سافلٍ ودعي وابن دعي، ليس له اصل ولا فصل.

اي انه رسم لنا خطة واضحة، وابان لنا: ايها الناس، عليكم ان تعرفوا ان قيادتكم هي هذه القيادة.

ان معاوية – لعنة الله عليه وعلى من عرف فعاله فدافع عنه – حاول هو وابوه، منذ الجاهلية لتكريس حكمه، واثبات تسلطه على الامة، ولكن في قباله كان امير المؤمنين عليه السلام يربي الرجال الصالحين، حيث بنى الامام مئات بل الالوف من الصلحاء في الامة، حتى ان بعض رجالات كربلاء من اصحاب الامام الحسين عليه السلام كانوا من تربية الامام، كحبيب بن مظاهر، ومسلم بن عقيل وغيرهما.

وكذلك فعل الامام الحسن عليه السلام، حيث ربّى الافذاذ من الرجال، حتى ان المختار قد تربي في بيت الامام الحسن عليه اسلام.

هكذا كان عمل الائمة عليهم السلام، ولكن كان جهد معاوية ومن معه ان يفصلوا الامة عن قياداتهم الحقة ( العلماء)، فحين انفصلت القيادة عنهم وصارت الى معاوية، حكم الناس بقهر السلاح و تغرير المال،حين اراد ان ينصب ابنه يزيد، ولياً للعهد، جاء الى المدينة، ثم نصب مجلساً، وجلس هو على المنبر ويزيد تحته بمرقاة واحدة، فقام الجلّاد وبيده السيف منادياً: (خليفة المسلمين هذا – واشار الى معاوية -، فان اصابه شيء او مات فهذا – واشار الى يزيد -، فمن أبى فهذا – وهزّ السيف بيده-).

انني اوصي اخوتي ان يقرأوا زيارة جامعة ائمة المؤمنين، التي تبين كيف ان الامة انفصلت عن قيادة العلماء، الذي هم قيادة الخير، ولا يبحثون عن اخضاع الناس بالقوة، او يغروهم بالوعود الكاذبة.

اننا نرى اليوم ان الملايين من الناس يعزّون الامام الحسين عليه السلام، ان علاقتهم بالامام ليست علاقة مال او سلطة، انما هي علاقة حب، متصلة بالايمان بالله عزوجل، وهذه العلاقة لابد ان تتجسد في علاقة الناس بالعلماء الربانيين، الامناء على حلال وحرامه.

صفات العالم

لقد اوضحت الايات القرآنية، ونصوص احاديث اهل البيت عليهم السلام، صفات العالم الرباني، الذي يستحق الاتباع من قبل ابناء الامة، قال ربنا في سورة المائدة: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذينَ أَسْلَمُوا لِلَّذينَ هادُوا )، يحدثنا الرب عن التوراة، وليس الحديث عن الكتب السابقة للتسلية، بل هو حديث للاعتبار وانه يصدق على كل الكتب السماوية، التوراة، التي فيها هدى ونور، فيها حقائق، ونورٌ يضيء درب المؤمن، الا ترى ان المؤمن الذي يفهم القرآن يعطيه الله نوراً يمشي به ويسير حتى في امور دنياه بشكل مستقيم.

انزلت التوراة، لتكون شريعة للناس، والشريعة لا تستقيم الا بإمام، وهناك الف دليل ودليل على بطلان من يقول ( حسبنا كتاب الله ) ومن هذه الادلة، هذه الاية، فلابد ان يحكم النبيون بالشريعة.

ومن صفات الانبياء، تسليمهم التام، فكل خليةٍ من خلاياهم مسلمة لله عزوجل بشكل تام، وهذه الصفة لا تنطبق على من سواهم من العلماء والربانيين، اذ قد تبدر من العالم زلّة في قول او فعل، ولكن ذلك يستحيل على النبي.

والسؤال: من يكون محوراً للحكم ؟

(للذين هادوا) اذ ان الشريعة جاءت لاجلهم، لا عليهم، والاسلام ليس ديناً ليكون حكماً على الناس، بل هو دين للناس..

وبعد الانبياء يكون الامر للربانيين، وهم الاوصياء المصطفون، ومن بعدهم يكون الامر للاحبار، قال تعالى: (وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ..).

الا ان الاحبار لابد ان يتصفوا بصفات معينة ( وان كان يمكن ان نقول ان هذه الصفات تشمل الربانيين ايضاً) والتي بها لابد ان يحكموا في الامة، قد ذكر القرآن الكريم في هذه الاية اربعة منها وهي:

1-   (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ )، ان يكون حفيظ الكتاب، ان سئل اجاب، في فقهٍ او قرآن او معارف اخرى، فلا يقولن انه لا يعرف القرآن، ويعرف بدل ذلك الفقه او الاصول، كلا ؛ ان العالم لابد ان يكون عالماً بالفقه والاصول، بالعقائد والمعارف، والقرآن الكريم.

وكلمة القرآن واضحة في هذا المجال، وقد قال امير المؤمنين عليه السلام:”فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْأُمَّةِ إِلَّا أَعْلَمَهُمْ‏ بِكِتَابِ‏ اللَّهِ‏ وَ سُنَّةِ نَبِيِّه‏[6]، ذلك لان القرآن هو الدستور الاساسي للحياة.

2-   ( وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ )، اي يكون مطبقاً وشهيداً للكتاب، على نفسه وعلى الاخرين،يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يرشد الناس الى الخير، ويدعوهم الى الصلاح.

والشاهد يعني – في لغة القرآن – القائد، يقول ربنا سبحانه في اية اخرى: (وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيدا)[7].

فكما ان النبي هو شهيد وقائد،كذلك هؤلاء يكونوا قيادات الامة.

3-   ( فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ )، عدم خشية الناس يعني جميعهم، والناس على اقسام ودرجات، فمنهم من يملك القوة، ومنهم من هو صاحب مال، ومن الناس من لا يملك نصيباً من القوة او الثروة، ولكنه يلوذ بهما ويدافع عنهما ليضمن مصالحه.

فحينما يهرب الانسان من كلام العلماء الصالحين ودعوتهم، تراه يلوذ بالحاكم الظالم فيصير جندياً عنده، او موظفاً في دوائره، من اجل الثأر من العالم وعدم تحمل المسؤولية تجاه ما يقول. طبعاً ليس المقصود كل جندي او شرطي، بل من يخدمون السلطات الظالمة.

وفي المقابل فان العالم يتعرض لضغوط مختلفة، لابد ان لا يخشاها، بل يخشى الله وحده، وتبدأ هذه الضغوط من قطع الراتب و المنع من العطاء والطرد من الوظيفة، ثم التهديد في اهله ونفسه، ثم الاعتقال والسجن، وفي النهاية القتل.

العالم الذي يخشى القتل، لا ينفع الامة، والقرآن يبين في ايات كثيرة، ان العالم ان كان عالماً صادقاً فلا يخشى الموت، بل يدعوهم القرآن ان يتمنوا الموت، وتكررت هذه الدعوة في اكثر من سورة بالنسبة الى علماء اليهود، قال ربنا: (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين‏)[8].

وقد بينت في حديثٍ سابق، ان من اعظم صفات علماء مدرسة اهل البيت عليهم السلام، انهم كانوا يتمنون الموت والشهادة، وضربت امثلةً لذلك، وهي كثيرة.

وبالتأكيد ان من استشهد من العلماء كان قد دعى الله في ليالي مباركة وفي اواقات استجابة الدعاء ان يكتب لهم الرب الشهادة والقتل في سبيله: ( وقتلاً في سبيلك فوفق لنا)[9].

4-   (وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتي‏ ثَمَناً قَليلاً )، لا تبيعوا الدين، ليس الدين للمزاد العلني، فليس الدين ديناً يتنازل عنه ازاء دراهم معدودة.

والتاريخ ينقل لنا صوراً لاولئك الذين جعلوا الدين تجارة يتاجرون بها ويحصلون على الاموال والثروات عبرها، لابد ان ندرس هذه الحالات لكي لا نبتلى بامثالها.

فهذا سمرة بن جندب الذي يعتبر نفسه صحابياً لرسول الله، يساوم معاوية على حديثٍ واحد يضعه كذباً وزوراً ضد امير المؤمنين عليه السلام، ويصل سعر الحديث الى خمسمائة الف درهم، وحين اعترض عليه معاوية كثرة طلبه، وغلاء سعر الحديث، قال له بل بعتك رخيصاً، لأني بعتك ديني.

ومن يبيع دينه للطغاة فانه لن يهنأ بما يحصل عليه من اموال وثروات ازاء بيعه للدين والفتوى و..

النظام الحسيني

لقد استشهد الامام الحسين عليه السلام ليهدم بناءاً ويسقط نظاماً، ليبني مكانه نظاماً اخر، وكان نظامه الاجتماعي نظامٌ يكرس فيه جميع القيم السامية التي جاء بها النبي صلى الله عليه واله.

كان للنظام الذي بناه الامة هرم، وهرمه هم العلماء بالله، الامناء على حلاله وحرامه، وفي حديثه الذي ذكرناه في بداية الحديث يبين الامام عليه السلام هذا الامر بوضوح.

بالرغم من ان حديث الامام عليه السلام كان موجهاً لاولئك العلماء والصحابه الذين تركوا مسؤولياتهم، ولكنه يبين ضمناً اسباب انفلات الامور من ايدي العلماء قائلاً:”فَأَنْتُمُ الْمَسْلُوبُونَ تِلْكَ الْمَنْزِلَةَ وَ مَا سُلِبْتُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِتَفَرُّقِكُمْ عَنِ الْحَقِّ وَ اخْتِلَافِكُمْ فِي السُّنَّةِ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ الْوَاضِحَةِ وَ لَوْ صَبَرْتُمْ عَلَى الْأَذَى وَ تَحَمَّلْتُمُ الْمَئُونَةَ فِي ذَاتِ اللَّهِ كَانَتْ أُمُورُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تَرِدُ وَ عَنْكُمْ تَصْدُرُ وَ إِلَيْكُمْ تَرْجِعُ وَ لَكِنَّكُمْ مَكَّنْتُمُ الظَّلَمَةَ مِنْ مَنْزِلَتِكُمْ وَ اسْتَسْلَمْتُمْ أُمُورَ اللَّهِ فِي أَيْدِيهِمْ يَعْمَلُونَ بِالشُّبُهَاتِ وَ يَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ سَلَّطَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِرَارُكُمْ مِنَ الْمَوْتِ وَ إِعْجَابُكُمْ بِالْحَيَاةِ الَّتِي هِيَ مُفَارِقَتُكُمْ”[10].

فالخوف من الموت والاعجاب بالحياة الدنيا كان السبب الاساس في استيلاء بني امية على الحكم انذاك، ولو كان العلماء يقومون جميعاً بمسؤولياتهم تجاه الدين وابناء الامة، لما كان بامكان الظلمة ان يتسلطوا على رقاب الناس، فلو كان جميعهم يعلمون مثل عمرو بن الحمق الخزاعي، ورشيد الهجري و غيرهما لما كانت الامور تصير الى ما صارت اليه.

وبرأيي ان هذا الحديث، يشكل برنامج عمل كامل للعلماء، وان التزم العلماء بهذا المنهج بشكل صحيح، فان الناس يلتفون حولهم، ومن التفات الناس تتكون الامة الاسلامية، وحينما تتكون الامة الاسلامية تنهار انظمة الطغاة.

وانا اخاطب الناس الذين يريدون التقليد، واقول لهم: حينما تفتشون عن مرجعٍ لتقلدوه، فتشوا عنه ضمن هذه المواصفات، العالم الذي لا يهاب الموت، والذي لا يشتري بايات الله ثمناً قليلاً، والعالم الذي استحفظ ايات الكتاب، والذي كان شهيداً على كتاب الله، الذي وقف مع المستضعفين، وقف مع الزمنى والمرضى و.. – كما جاء في الحديث-، هذا العالم حين تقلده بينك وبين الله، فانك تضيف قوة جديدة الى الامة الاسلامية، يعني تصبح جندياً في جيش الامام الحجة عجل الله فرجه.

ولا ينتج عن تقليدك مرتبات مالية او مناصب حكومية، بل هو امرٌ بينك وبين الله، ولكنه سيشكل الامة التي يهابها الطغاة ويخشاها الظلمة.

كان الميرزا حسن الشيرازي مرجعاً في مدينة سامراء وحوله بعض اتباعه وتلامذته، وكانت سامراء حينها مدينة صغيرة، فجاءه الخبر بأن الاستعمار البريطاني يروم احتلال ايران بشركات التبغ، على غرار ما فعلته في شبه القارة الهندية، والحّوا على السيد ان يصدر فتوى ضدهم، ولكنه تأخر في اصدار الفتوى.

وبعد ايام دخل الى سرداب الغيبة، الذي غاب فيه الامام الحجة عجل الله فرجه، وبعد ساعات خرج وبيده فتواه ضد استعمال التبغ جاء فيه: ( استعمال التبغ يساوق محاربة الامام الحجة )، واثارت فتواه هذه ضجة كبيرة في ايران، حيث ترك الشيعة جميع انواع الدخان، وكانت تلك ضربة كبيرة على الاستعمار، فطلبوا من ناصر الدين شاه، ان يعالج الامر، ولكنه عجز عن تغيير الوضع في دولته، فدخل الى قصره مغضباً، طالباً من الخدم ان يأتوا اليه بـ (الگدو)، ولكنه تفاجأ بوقوف الخدم في مكانهم، وعدم اسراعهم الى احضار ما يريد، مكتفين بدل ذلك بتبادل النظرات بينهم، صاح بهم مرةً اخرى طالباً احضار التبغ، وقال حينها اجرئهم: ( جلالتك، ان زوجتك امرتنا بأن نكسر كل الات الدخان في القصر والقاءها في القمامة)، وحينها راح الرجل الى زوجته، وسألها عن سبب فعلها، فاجابت: ( بأن الحرام لا يبقى في بيتي )، قال لها: ( ومن حرّمها ؟ ) بلهجةٍ يريد الاقلال من شأن المرجع الشيرازي، فاجابته بكلمة اسكتته، قائلة: ( الذي احللني عليك حرم التبغ) !.

وهكذا قضى المرجع الشيرازي على استعمار اعظم دولة في العالم، بنصف سطر من كتابته..

على الناس ان لا يستهينوا بأصل التقليد، ثم اذا ما ارادوا التقليد ان يقلدوا من يتمتع بالصفات التي ذكرها القرآن وبينها الامام الحسين عليه السلام، ومن بعد ذلك يقلدونه دينهم بصدق واخلاص.

ان هذا الامر يشكل قوة هائلة، للحق وللقيم، وللمستضعفين والمظلومين، قوةً امام الباطل بكل انواعه والوانه.

لقد اسقط الامام الحسين عليه السلام الطاغية، وفي قبال ذلك بنى بناء العلماء والاتقياء، و بناء من التف حول الامام زين العابدين عليه السلام ومن بعده ابناءه الطاهرين، ولكن على العلماء ان يعرفوا ويعوا دورهم، ولا يخشوا البهرجه، والا يفكروا بهذه المظاهر السخيفه، فالعالم عالمٌ بعلمه ودينه وايمانه، عالمٌ بنصر الله له، وليس بغير ذلك.

ان هذا هو ميراث عاشوراء، ولكن الناس قد لا يعون ذلك، فقد سألني مستشرق الماني قبل سنوات، عن سبب ضرب الشيعة رأسهم في العزاء على الامام الحسين عليه السلام ؟

قلت لسببين: الاول، اننا ضد الظلم، وضد القيم الجاهلية، والثاني: اننا نريد عن انفسنا وعن حقوقنا، ولذلك ترى مدرسة اهل البيت عليهم السلام، حينما يحملون راية ابي عبد الله عليه السلام، انما هي رايةٌ ضد الظلم والطغيان، وهي راية لكل مستضعف ومظلوم.

فحينما نقول (لبيك ياحسين) و ( هيهات منا الذلة)، نعرف ان هذه الكلمات لابد ان تترجم في سلوكنا وتشكل واقع عملي في الانتماء الى الخط الرسالي، خط الايمان، خط اهل البيت عليهم السلام، خط العلماء الذين يمثلون الامام الحسين عليه السلام الذي يمثل النبي صلى الله عليه واله.



[1] المائدة: 44

[2] تحف العقول: ص 238

[3] المائدة: 28

[4] بحار الانوار: ج44، ص 325

[5] بحار الانوار: ج45، ص 83

[6] كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2، ص 651

[7] البقرة: 143

[8] الجمعة: 6

[9] اقبال الاعمال: ج1، ص 61

[10] تحف العقول: 239